يبدو بعضٌ من شكوك اللبنانيين حيال توقيف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، صائباً، كذلك مخاوفهم من أن يكون الأمر مجرد إجراء لا يصل الى الحقيقة المطلقة، ولا يعيد أموال المودعين المتلاشية في دفاتر الدولة والمصارف.. فتوقيت التوقيف وسياقه، يثبتان بما لا يحمل الشك بأن غطاء سياسياً محلياً رُفع عنه، لأجل مسمى، بعد افتقاده لغطاء دولي بمجرد خروجه من موقعه.
وأوقف المدعي العام القاضي جمال الحجار سلامة بعد حصوله في الفترة الماضية على الكثير من الوثائق والمستندات من المصرف المركزي، وذلك في ما يتعلق بملفات مصرفية قرر التحقيق فيها بنفسه، بعدما قرر سحبها من يد القاضية غادة عون، حسب معلومات نشرتها “المدن”.
سياق محاسبة
غير أنه من الضرورة التذكير بتوقيت توقيف سلامة الذي يتزامن مع ضغوط دولية لمحاسبة مشتبه فيهم في ملفات فساد، وهي سلسلة بدأت قبل أشهر، مع إصدار هيئة التحقيق الخاصة في المصرف المركزي قرارات سرية أودعت للمصارف لتجميد حسابات شخصيات مدنية وعسكرية في ملفات فساد، وكان بين تلك الشخصيات مصرفي واحد على الأقل، هو طارق خليفة في ملف “بنك الاعتماد المصرفي”.
وصدرت القرارات عن الهيئة في الربيع الماضي، استناداً الى تحقيقات قضائية، وهي فاعلة لمدة 6 أشهر، قابلة للتمديد ثلاثة أشهر إضافية.. وبالتوازي، فُتحت ملفات لآخرين، وستُفتح أيضاً ملفات كثيرين خلال الفترة المقبلة، وهي وعود قدمتها السلطات المحلية لمؤسسات دولية تضغط باتجاه محاسبة المرتكبين والمشتبه فيهم في قضايا فساد.
إلحاح دولي
ويبدو توقيف سلامة، جزءاً من استجابة محلية للإلحاح الدولي الذي لم يخلُ أيضاً من تهديدات بإدراج لبنان في اللائحة الرمادية لتبييض الأموال المتصلة بجرائم مالية. فقد أبلغت جهات دولية، السلطات اللبنانية، بأن بعض الملفات يعرف بها القضاء، كما 3 أجهزة أمنية، ومع ذلك لم يتم تحريك ساكن بهذا الاتجاه، وهو ما دق ناقوس الخطر، ودفع السلطات للتحرك بعزم، لإثبات الجدية في كل المفاصل التي تبدأ من ملاحقة ملفات مالية وفساد، وصولاً الى استغلال النفوذ الذي ظهر في تسريبات حول توقيف نجل مدير عام الدفاع المدني، بتهمة حيازة مخدرات أثناء وجوده في سيارة عائدة للمديرية.
وبهذا التحرك الذي يتصدره توقيف سلامة، الأعلى رتبة والأكبر من حيث الملفات المالية، تحدد السلطات خريطة طريق للالتزام بالاستجابة للمطالب الدولية، وهي مطالب تنسجم مع مطالب صندوق النقد الدولي المؤجل تنفيذها حتى انتخاب رئيس للجمهورية. وتستبق بها اجتماع لائحة العمل المالي “فاتف” Fatf، المزمع انعقاده في 25 أيلول/سبتمبر الجاري، لتحديد تصنيف لبنان في اللائحة الرمادية المعنية بالتصنيف على ضوء الجرائم المالية.
ورقة اعتماد دولية
ولا يهم ما إذا كان توقيف سلامة سيكون لأربعة أيام على ذمة التحقيق، أو لشهر أو أكثر أو أقل.. أم لا.. وما إذا كان سيخرج بموجب سند إقامة ويُحاكم خارج القضبان، أم لا… فتوقيفه يمثل ورقة اعتماد حكومية للجهات الدولية، وتالياً، طالما أنه يُحاكم هنا، فإن مذكرات التوقيف الأوروبية المزمع صدورها أيضاً قبل نهاية العام، قد يؤجّل صدورها في انتظار ما ستفضي اليه المحاكمة المحلية.
إزاء هذه التعقيدات، تصبح التقديرات حول انفراط عقد المنظومة، متسرعة، وتنمّ عن سوء تقدير. صحيح أن سلامة، يمثل رأس جبل جليد الأسرار اللبنانية المتصلة بالملفات المالية، لكنه لم يعد، بعد خروجه من موقعه في العام الماضي، رقماً في المعادلة اللبنانية التي انتظمت بغيابه، وتموضعت بطريقة قادرة على حماية جميع الرؤوس المشتبه فيها، خصوصاً بعدما رُفع الغطاء الدولي، بدليل إدراج سلامة في لوائح العقوبات الأميركية والأوروبية والبريطانية والكندية، وصدور مذكرات توقيف أوروبية بحقه.