في منتصف تموز الفائت، قدّمت منظمة “ANERA” الأميركية هِبة إلى وزارة الصحّة تحوي كميات من دواء مرضى السرطان المناعي OBDIVO، بكمية تكفي حوالى شهرين ونصف الشهر. وكنتيجة حتميّة للفساد المستشري في كافة مفاصل المنظومة الإدارية الحالية، سرعان ما فُقد الدواء من وزارة الصحّة بعد أسبوعين ونصف الأسبوع من استلامه بلا أسباب واضحة.
وفي ظل العجز التام ونفاذ الفرص في الحصول على العلاج، لجأ مرضى السرطان إلى وسائل بديلة لإنقاذ ما تبقى من حياتهم. ونتيجة واقع الأزمات الراهنة حاولوا الهروب من شبح الموت الذي يلاحقهم بشكل يومي، واستسلموا لجشع تجار السوق السوداء الذين يتاجرون بحياتهم ويحصلون أرباحًا بالدولار، مقابل بضع حبات من الدواء.
قرار استثنائي تشوبه عرقيل
هذا الواقع حمل المجتمع الدولي والمنظمات الصحيّة العالميّة على التدخل بين فينة وأخرى، لتقديم هبات صحيّة كان آخرها منظمة ANERA التي أرادت مساعدة مرضى السرطان أجمعين بلا استثناءات. لكن فئة المرضى المسجّلة في الضمان الاجتماعي كانت الحلقة الأضعف، بسبب عدم قدرتها على الاستفادة من هذه المساعدة، ما اضطر وزير الصحة اللبناني فراس أبيض إلى اتخاذ قرار استثنائي جعل المنتسبين إلى الضمان الاجتماعي قادرين على التوجه إلى وزارة الصحة للحصول على حصتهم من الدواء. وذلك إسوةً بالمرضى المسجلين لدى وزارة الصحة.
بالرغم من قرار الوزير الأخير، هناك عراقيل كثيرة منعت قبول معاملات المرضى في وزارة الصحة، إذ طُلب منهم تعبئة البيانات، ثم أجلّت مواعيدهم مرات عدة، وبعد أسبوعين أعلموهم أن الكمية نفذت بالكامل. وفي حديث “المدن” مع السيدة هلا ح. (60 سنة)، وهي مريضة تعاني من سرطان الرئة، ومنتسبة إلى الضمان الاجتماعي، قالت إنها توجهت إلى وزارة الصحة بعد قرار الوزير الاستثنائي، للحصول على علبة واحدة من الدواء. فطلب منها تعبئة بيانات شخصيّة وتقديم تقارير طبيّة مفصّلة عن مرضها. وبعد أسبوع قالوا لها إن الكمية نفدت، وطلبوا منها التوجه إلى الضمان الاجتماعي لمساعدتها. وقد أكدت المريضة أنها في وضع صحيّ حرج وانقطاعها عن العلاج يشكل خطرا كبيرا على حياتها. لاسيما أنها عاجزة عن شراء أدويتها من السوق السوداء أو من تركيا بأسعار باهظة.
تهريب وتزوير
وأكد رئيس جمعية بربارة نصار لمرضى السرطان هاني نصار أن أسباب فقدان الأدوية من الوزارة يعود إلى غياب المكننة التي تساعد على توزيعها بطريقة منظمة، تبعاً لمعلومات المرضى التفصيليّة. هذا فضلاً عن المحاصصة والاستنسابية التي ساعدت على هدرها وسرقتها. وأشار إلى أن أدوية السرطان ليست مقطوعة، بل تباع في السوق السوداء بألوف الدولارات، وتحمل ختم وزارة الصحة.
وأشار نصار إلى أن تزوير بيانات المرضى انتشر كثيراً في الفترة الأخيرة، للحصول على عبوات من الأدوية المدعومة وبيعها بأضعاف سعرها. مثلاً هناك امرأة قدمت للجمعية تقريراً طبياً يؤكد أنها مريضة سرطان وبحاجة قصوى إلى الدواء، ليتبين أن التقرير مزور ويفيد بإصابة المرأة بسرطان البروستات الذي لا يصيب النساء.
توضيح الوزارة
وأوضح وزير الصحة فراس الأبيض الذي اتصلت به “المدن” أن الهبة قُسّمت بين الجامعة الأميركية ووزارة الصحة، لافتاً إلى أن كل الهبات التي تقدم للوزارة يصار إلى توزيعها على فئات المرضى الذين يستفيدون منها. وقال إنه فتح تحقيقاً واسعاً في وزارة الصحة، للتأكد من المعلومات التي تتداول عن هدر الأدوية ونفاذها.
وأكد أبيض أنه على أتم الاستعداد لمحاسبة وملاحقة كل الأطباء الذين يقومون بتزوير البيانات أو تهريب الأدوية. وكل الأدوية التي تباع في السوق السوداء وتحمل ختم الوزارة هي مزورة ومركبة من محلول الماء والملح، ولا دخل للوزارة بها بتاتاً. وتعليقاً على نفاذ كمية الأدوية بعد أسبوعين ونصف الأسبوع، ردّ أنه سيفعّل نظام المكننة في توزيع الأدوية. وذلك لأن أعداد المرضى غير ثابت ويتغيّر يومياً. لذا من الصعب معرفة كمية الأدوية إن كانت تكفي لشهرين ونصف أو أقل.
وسائل بديلة: الأعشاب
وأمام ارتفاع تكاليف العلاج الباهظة، وتوقف المرضى عن تلقي جلساتهم الكيميائية، سلّموا أجسادهم الضعيفة للطب البديل عله يكون سبيلاً إلى التعافي. معتمدين على أنواع متنوعة من الأعشاب الطبيعية المتوفرة في بيوتهم، أو تلك التي لا يتعدى سعرها المئة ألف ليرة في الشهر.
يعاني أحمد (57 عاماً) من مرض السرطان في المسالك البولية منذ 5 سنوات. متزوج وأب لشابين. توقف عن عمله في التجارة الحرة منذ عامين، بسبب وضعه الصحي المتأرجح. ويعتبر أن الجلسات الكيميائية التي تلقاها لم تساعده على التعافي، لأن جسمه لم يتفاعل مع العلاج. ثم انقطع عن أدويته أشهراً عدة بسبب وضعه المادي. لذا، قرر التوجه إلى الطب البديل لتوفير المال. فزار طبيباً في جنوب لبنان يداوي المرضى منذ سنوات في منزله. ويقول أحمد: “أخبرت الطبيب عن وضعي الصحي، فطلب مني المواظبة على أكل الثوم يومياً لتقوية مناعتي، إضافة إلى مزج عدة أنواع من الأعشاب الطبيعية وغليها وشرب محلولها مساء كل يوم. لا أعتقد أن هذا كفيل بشفائي، ولكنني على الأقل أحاول إيجاد أي طريقة علاج كي لا أموت”.
هنري شيبان مختص في الطب البديل ووصفات الأعشاب الطبيعية على أنواعها، أكد لـ”المدن” أن عشرات الاتصالات تنهال على عيادته يومياً من مرضى سرطان راغبين في إيجاد طرق جديدة للتعافي، بديلًا عن الأدوية والجلسات الكيميائية.
طالت تبعات هذه الأزمة كل فئات المرضى في المجتمع. فحتى الميسورين لم يعد بإمكانهم الحصول على علاجهم بطريقة مستدامة. هذا ما دفع بالكثير من المرضى الميسورين إلى استبدال علاجهم المناعي بالعلاج الكيميائي الذي لا يعطيهم النتيجة المرجوة. فالعلاج المناعي الفعال هو المعتمد على الأدوية التي تقوي مناعة الجسم، ولكن المرضى استبدلوها بالجلسات الكيميائية بسبب عدم توفر الأدوية.
أمام أنينهم الصامت، بات واضحاً أنّ حقوق اللبينانيين وكراماتهم وحياتهم رهن الهدر المستمر والفساد المستشري، إذ بات الحديث عن الحقوق الأساسية بديهياً في هذه الدولة المنهارة.