المصارف هي المسؤولة الأولى
(أولاً)، ذكرت الجمعية بداية «ان المشروع يرمي الى تحميل المصارف مسؤولية الازمة المالية النظامية التي سببتها سياسة الدولة ومصرف لبنان الخاطئتين، باستخدام توظيفات المصارف لديهما في الدولار لتثبيت سعر الصرف وتغطية مصاريف عامة مع التخلف عن رد مقابلها ما حال دون رد المصارف للودائع الى اصحابها…».
كلام غير دقيق. فالقاصي والداني يعلم ان المصارف هي المسؤولة الاولى عن الازمة الحاضرة وتفاقمها بمخالفتها ومشاركتها مصرف لبنان بمخالفة القوانين. فقد خرجت عن موضوعها الاساسي المحدد في القانون والذي هو توظيف ودائعها لدى القطاع الخاص لتنمية الاقتصاد. إذ قامت بتوظيف ما يتجاوز 75 بالمئة من هذه الودائع في اصدارات آجلة للخزينة ولمصرف لبنان ما يندرج ضمن اطار نشاطات مصارف التسليف المتوسط والطويل الاجل، وخلافاً للقواعد التي تحظر على المصرف التجاري تجاوز الاعتمادات الممنوحة بشكل مباشر وغير مباشر لشخص واحد نسبة 30 بالمئة من اموال المصرف الخاصة، وايضاً خلافاً للقواعد الاحترازية التي تطالب المصرف بمواءمة آجال ايداع الودائع والقروض، وبتكوين نسب سيولة عالية في حال التعامل بودائع بالعملات الاجنبية لعدم توافر»المقرض الأخير» المليء بهذه العملات والقادر على تأمين سيولتها عند الاقتضاء. وكلها امور لفتت اليها والى مخاطرها تقارير صندوق النقد الدولي. علماً ان الرئيس السابق لجمعية المصارف الدكتور فرنسوا باسيل كان قد حذر عام 2014 من تمويل المصارف لطبقة سياسية فاسدة، وقد اختارت ادارات غالبية فروع المصارف الاجنبية الانسحاب من السوق اللبناني على الانغماس بالمخاطرة الخطيرة التي قامت بها المصارف الاخرى، بتركيز تمويلها بالعملات الاجنبية لعمليات وحاجات قطاع عام فاسد.
أيضاً شاركت مصارف عدة بالهندسات المالية التي اطلقها مصرف لبنان لكي يستقطب ودائع المصارف لدى مراسليها الى صناديقه خلافاً للنصوص القانونية التي تمنعه كتاجر من الاستقراض مع فقدان رأس المال. وقد قدر الاقتصادي الدكتور توفيق كسبار عوائد هذه الهندسات بما لا يقل عن 30 مليار دولار لم تظهر في ميزانياتها.
كذلك عمدت المصارف بطلب من مصرف لبنان وبدون اي اعتراض منها الى تكوين توظيفات الزامية بالعملات الاجنبية لديه، مقابل فوائد مجزية خلافاً للقانون الذي لا يتحدث سوى عن تكوينها لاحتياطات الزامية بدون اي عائد وتبلغ قيمة هذه التوظيفات راهناً حوالى الـ8 مليارات دولار.
وعند اندلاع الازمة مارست المصارف «مقصلة» استنسابية، إذ سهلت للسياسيين والنافذين وعلى نحو غير قانوني تحويل مبالغ طائلة للخارج وهو امر يعاقب عليه قانون العقوبات. وقد اشار الى هذه الاستنسابية صراحة حاكم مصرف لبنان بأحد كتبه الى وزير المالية بعد عدة اشهر من اندلاع الازمة في تشرين الاول 2019، لكن دون اتخاذ اي اجراء لوقفها، بدليل تأكيد نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب مؤخراً في كلمة له من مجلس النواب أن «هناك عدداً كبيراً من النافذين في لبنان ما زالوا يرسلون أموالهم إلى الخارج، منهم سياسيون ورجال أعمال وضباط وقضاة». ولا توجد احصاءات رسمية عن قيمة مجمل هذه التحويلات بما فيها التحويلات الائتمانية وان كانت بعض الدراسات تشير الى مبلغ لا يقل عن 8 مليارات دولار.
من جهة اخرى استفادت مصارف عديدة من تعميم اصدره مصرف لبنان مطعون بقانونيته يطالبها بقبول تسديد الاقساط او الدفعات المستحقة من قروض التجزئة الممنوحة بالعملات الاجنبية، لغايات شخصية او سكنية وبحدود معينة على اساس 1500 ل.ل للدولار الواحد (يبلغ حالياً حوالى 90000 ل.ل)، فوسعت من اطار هذا التعميم ليشمل بدون حق ايفاء قروض تجارية وقروض مستحقة لسياسيين ونافذين، ما نجم عنه انخفاض حاد في حجم القروض للقطاع الخاص بحوالى 30 مليار دولار.
مجموع المبالغ السابقة تقارب حجم الفجوة الموجودة في حسابات مصرف لبنان وتتجاوز نسبة 80 بالمئة من مجموع الودائع المسجلة في ميزانيات المصارف. وتبلغ في حال اضيفت اليها المبالغ المتأتية من تفرغ المصارف عن سندات اليوروبوندز وقامت الاخيرة بتصفية بعض من موجوداتها.
عدم تطبيق التعميم 154
(ثانياً)، ذكرت جمعية المصارف انه «لا يجوز اخضاع المصارف، كما ينص مشروع القانون، لمهل قصيرة تعيد خلالها تكوين مراكزها المالية تحت طائلة التصفية. فالمصارف تحاول امتصاص خسائر لم تتسبب بها ويقتضي مساعدتها لا معاقبتها…».
كلام غير صحيح فالتعميم الاساسي رقم 154 طالبها بإﻋــﺎدة ﺘﻔﻌﻴــل ﻨﺸــﺎطﺎﺘﻬﺎ وﺨــدﻤﺎﺘﻬﺎ لعملائها منذ منتصف عام 2020.
ضرورة معاقبة المرتكبين والمقصرين
(ثالثاً)، شددت الجمعية في كتابها على «انه لا يجوز تحميل ادارات المصارف وكبار مساهميها والمفوضين بالتوقيع ومفوضي مراقبة المصارف مسؤولية الازمة وحجز اموالهم…».
قول لا يستقيم مع دعوات مسؤولين عدة بضرورة معاقبة المرتكبين والمقصرين واهمية ذلك في اية عملية اصلاح مصرفي. فالسيدة Christine Lagarde الرئيسة الحالية للمصرف المركزي الاوروبي ذكرت خلال ندوة نظمها الـ FED بتاريخ 5 تشرين الثاني 2015، وكانت وقتها المدير العام لصندوق النقد الدولي الـ IMF، بأنه «من الضروري تحميل المصرفيين المسؤولية الكاملة أكانت مدنية او جزائية عن أفعالهم في حالة ارتكابهم المخالفات القانونية. ويجب ألا يكونوا قادرين على الإفلات من العقوبات بدفع الغرامات فقط، فهكذا تدبير اثبت محدوديته».
وكان البروفسور Daniel Tarullo استاذ القانون في كلية القانون في جامعة Harvard والعضو السابق في مجلس الـ FED قد ذكر ان «الانتظام المصرفي الصحيح لا يرتكز فقط على ضرورة توافر المعايير الموضوعية التقليدية كرأس المال والسيولة والملاءة وتجارب الاجهاد وضمان الفصل بين نشاط المصرف التجاري والاستثماري وغيره… بل ايضاً على ضمان وجود قيادات مصرفية لا شائبة على سلوكها المهني في ادارات المصارف، ويجب عند انحراف هؤلاء ان يحظروا علناً من ممارسة العمل المصرفي، وان يلاحقوا جزائياً ويسجنوا تماماً كما يحصل مع الافراد».
هذا ما فعلته أيسلندا،حسب رئيسها Grimsson الذي اعلن في Davos، ان خطة بلاده لتجاوز الازمة هدفت بعنوانها الرئيسي الى معاقبة المرتكبين والمقصرين ومصادرة ممتلكاتهم واموالهم حتى في الملاذات الضريبية واعلان بلاده «دولة قانون». فكان هذا الحل السحري لعودتها الى الاسواق المالية سريعاً واكتساب ثقتها. والنتيجة خروج أيسلندا بعد 8 سنوات من ازمتها المالية بتحقيق اعلى واسرع نمو في العالم في الناتج المحلي الاجمالي بلغ 7.2%، في حين ان لبنان يدخل السنة الخامسة من ازمته ولا تحقيقات قضائية بخصوصها ولا توقيفات ولا مصادرات ولا تشريعات للخروج منها. وتقديرات الدكتور Garbis. Iradian كبير اقتصاديي مؤسسة التمويل الدولية Institute of International Finance تشير الى ان التوقعات لناتجه المحلي الاجمالي سيكون سالباً للعام 2023 وبمقدار –7.
التشابك السياسي والإداري والمصرفي
(رابعاً)، ذكرت جمعية المصارف «ان المسؤولية يجب ان تطال بسبب التقصير كل المشاركين في القرارات المؤثرة في مصير المصارف»، اي السلطة السياسية من نواب ووزراء ورؤساء حكومات وايضاً السلطات المصرفية اي مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف.
كلام صحيح لكن يجب قراءته على انه مكمل لمسؤولية المصرفيين لتظهيرالمشهد العام على حقيقته والمتمثل بارتكاب جميع الافرقاء السابقين، فرادى وبالتكافل والتضامن، العديد من المخالفات القانونية، التي افضت الى نقل ثروة المودعين الى فريق آخر افراده من السياسيين والنافذين وقوى الامر الواقع والمصرفيين.
وكما يقول المثل الفرنسي الشهير لا شيء يضيع او يتبخر بل يتحول من حالة الى اخرى، rien ne se perd tout se transforme، كذلك هي ودائع المودعين فهي لم تتبخر بل هي موجودة ومستقرة في جيوب وحسابات واصول تعود للمستفيدين من التسبب بالازمة وتفاقمها.
واستعادة هذه الودائع لا تتطلب اقرار مشاريع توصف بانها اصلاحية ومتفق عليها مع صندوق النقد الدولي، وحقيقتها انها للتغطية والتعمية على التجاوزات والمنهبة التاريخية وباكورتها تعديلات قانون السرية المصرفية الذي وضع اصلاً لحماية الودائع، فبات كما هو معروف اداة لعرقلة التحقيق للكشف عمن نهبها.
لقد عرضت الـ The Washington post بمقال نشرته بتاريخ 21 تشرين الاول 2021 للتشابك الثلاثي السياسي والاداري والمصرفي القائم في لبنان. فذكرت ان «في لبنان تركيزاً عالي المستوى في القطاع المصرفي، اذ يعمل فيه 54 مصرفاً تجارياً، 20 منها تمتلك نسبة 99% من أصول المصارف الموحدة، و 18 من هذه المصارف العشرين لديها مساهمون رئيسيون مرتبطون بالنخب السياسية، وتعود نسبة 43% من أصول القطاع المصرفي إلى أفراد وعائلات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسياسيين. وتسيطر ثماني عائلات سياسية فقط على نسبة 32% من إجمالي الأصول المصرفية».
وأشارت الصحيفة في مقالها بعنوان عريض ان «إدارة المصرف المركزي نفذت مخططاً لإثراء السياسيين» وهو امر متوقع. فهذه الادارة يتم تعيينها بأخذ رأي السياسيين وعادة ما يراعي افرادها مصالح السياسيين الذين رشحوهم في المصارف التي يرتبط الاخيرون بها املاً بتجديد ترشيحهم لولاية ثانية. ومراعاة القيمين على المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف لا تتوقف على السياسيين بل تتعداهم الى المصرفيين حسب رأي البروفسور Peter Kunz استاذ القانون الاقتصادي في جامعة Bern، الذي يرى ان التعيين سيكون مرحلة تدريب متقدمة للطامحين للانتقال الى المصارف الكبرى بعد الولاية ما يجعلهم أكثر ليونة مع هذه المصارف، لأن الاخيرة ارباب عمل محتملون مستقبلاً. وهذا ما حصل بالفعل مع غالبية نواب الحاكم واعضاء لجنة الرقابة السابقين اذ التحقوا، بالرغم من الحظر المفروض عليهم بعدم الانتماء الى اي مصرف او مؤسسة مالية قبل انقضاء سنتين على انتهاء الولاية، بمصارف قامت بتعيينهم مستشارين بمرحلة اولى ولاحقاً في الادارة العليا وفي مجلس الادارة.
التشابك الثلاثي السياسي والاداري والمصرفي الذي اوضحته الـ The Washington post يجعل من المتعذر، لا بل من المستحيل، تمرير اي قانون اصلاحي. لان هكذا قانون يتطلب رد اموال تم اكتسابها بطريقة غير شرعية مثل التحويل الاستنسابي للخارج، وتسديد القروض على سعر صرف للدولار متدنّ جداً عن سعر صرفه الواقعي او الاستفادة من هندسات مالية غير قانونية اطلقها مصرف لبنان… وغيره. وكلها أمور قام بها الوزراء والنواب او مقربون منهم، ومن المؤكد انهم لن يصوتوا على اي مشروع يفرض رد ما تم اكتسابه من هذه العمليات. علماً ان نظامي عمل مجلس الوزراء والمجلس النيابي لا يتضمنان اية قواعد تتعلق بمراعاة المناقشات والتصويت على المقررات فيهما لادبيات متعارف عليها في العديد من الدول، مثل تضارب المصالح وغيره تحت طائل بطلان المناقشات والتصويت. لا بل ان المتداول به راهناً مشاريع تمويه وتعمية على العمليات غير المشروعة التي تم اتيانها لتشريعها كمشروع فرض ضريبة متأخرة على القروض بالدولار التي تم تسديدها على اسعار صرف متدنية عن الاسعار الواقعية، ما يكسب عمليات السداد المسبق هذه الشرعية المفقودة.
الخلاصة
أمام واقع الاطباق الكامل للتشابك الثلاثي على الامور في لبنان، وعجز القضاء عن التصدي لانحرافات هذا التشابك بصريح اعلان وزير العدل «بأن القضاء ليس بخير» واعلان رئيس المجلس النيابي «ان الضعيف فقط يراجع القضاء في لبنان»، لم يتبق امام اللبنانيين سوى الضغط لمطالبة المجتمع الدولي بالسعي لانشاء محكمة دولية، تقتصر مهمتها بالتحقيق واصدار الاحكام بالمتسببين بحصول وتفاقم الجريمة المرتكبة ضد الانسانية في هذا البلد، من خلال الابادة المالية لثروات المودعين في المصارف اللبنانية ونهبها بتدخل من قبل تشابك ثلاثي قابض على مقدرات الامور.
ومن المفيد في هذا المضمار ان يصار الى الضغط على ادارة صندوق النقد الدولي لوقف اي نقاش مع السلطات اللبنانية، كون تدخل الصندوق مرهون بحصول صدمات اقتصادية ومالية وليس حدوث ارتكابات ومخالفات يعاقب عليها القانون ويشير الى سبل معالجتها، لكن التشابك الثلاثي القائم يحول دون هذه المعالجة. وضغط ادارة صندوق النقد الدولي باتجاه انشاء المحكمة الدولية المقترحة سيؤدي بلا شك الى طي صفحة تقصير الصندوق باتخاذ اللازم تجاه اللبنانيين، بعد اكتشافه بان لبنان وصل الى حافة الهاوية بصريح اعلان ممثله Alvaro Piris الى الحاكم السابق لمصرف لبنان في نيسان 2016.