يخضع تحديد سعر ربطة الخبز لسجال مستمر بين وزارة الاقتصاد ونقابات الأفران والمخابز وجمعية حماية المستهلك. إلاّ أن الطرف الأقوى في هذه المعادلة هو مَن يفرض شروطه على أرض الواقع، ودائماً ما “تنتصر” المطاحن والأفران وتنجح في تحقيق ما يناسبها من شروط وأسعار.
لكن الإجحاف الذي يواجهه المواطنون بوصفهم مستهلكين لمادة الخبز، يفسِّره أصحاب الأفران والمخابز بأنه انعكاس طبيعي للأزمة التي يمرّ بها لبنان، ومع ذلك، فإن دعم استيراد القمح، خفَّفَ برأيهم عَدَّاد الأسعار الذي كان من المفترض استمرار صعوده لولا قرض البنك الدولي الذي خُصِّصَ لدعم استيراد القمح، وتالياً ضبط تحرُّك سعر ربطة الخبز.
وبعيداً من السجالات ووجهات النظر حول الأسعار، تؤكِّد الأفران أن سعر ربطة الخبز سيستمر بالارتفاع حتى الفترة الممتدة بين منتصف شهر أيلول المقبل ونهايته.
ارتفاع الأسعار بعد الدعم
تحدِّد وزارة الاقتصاد سعر ربطة الخبز الأبيض (الخبز العربي) وفقاً لجدول تُحتَسَب ضمنه أكلاف المواد الأولية التي تدخل في صنع الرغيف، من سعر الطحين إلى المازوت والسكّر والخميرة، إلى كلفة الإيجارات ورواتب العمّال وهامش ربح لأصحاب الأفران والمخابز، وهذا ما ينتج عنه بحسب نقابات الأفران والمخابز، السعر النهائي لربطة الخبز.
ولأن سعر القمح يتحرّك عالمياً ويرتفع معه سعر الطحين، صَعَدَ سعر الخبز في لبنان مدفوعاً بانهيار سعر صرف الليرة وربط الاستيراد والتسعير بالدولار. وحسب أمين سرّ اتحاد نقابات الأفران والمخابز نعيم خواجة، فإن سعر الربطة حالياً محدَّد بحسب دعم القمح “وفق دولار 60 ألف ليرة، بعد أن ارتفع من 45 ألف ليرة، وقبله من 30 ألفاً و15 ألف ليرة”. وبناءً على هذا المستوى من الدعم، تغيَّرَ سعر الربطة ليصل اليوم “إلى 55 ألف ليرة في الأفران، يضاف إليها 5000 ليرة للموزِّع و5000 ليرة لصاحب المحل، فتصل الربطة للمواطن بسعر 65 ألف ليرة في المناطق الساحلية ويضاف إليها 5000 ليرة للمناطق الجبلية تبعاً لزيادة كلفة النقل”.
ورغم تبديد دولارات الدعم منذ نهاية العام 2019، حاولت وزارة الاقتصاد بالتنسيق مع المطاحن والأفران “ضبط” تحرّك سعر الخبز من خلال تأمين التمويل لدعم استيراد القمح، من خلال قرض بقيمة 150 مليون دولار مقدّم من البنك الدولي. غير أن المبلغ الموزَّع بين 135 مليون دولار بشكل قرض مدعوم للبنان، و15 مليوناً كقرض ميسّر بفوائد خفيفة “تنتهي مفاعيله بمنتصف شهر أيلول المقبل، على أبعد تقدير، في حال الاستدامة في استعمال الطحين”، بحسب خواجة. وعليه، فإن سعر الخبز سيواصل الارتفاع إلى أن يوازي ما كان عليه قبل الأزمة. أي أن “ربطة الخبز ستصبح بدولار واحد ابتداءً من نهاية أيلول تقريباً”، علماً أنها اليوم بنحو 0.7 دولار.
أسعار غير مدروسة
عودة سعر الربطة إلى ما كان عليه قبل العام 2019 لا يعني انتظام الأمور. فالأوضاع الاقتصادية لغالبية اللبنانيين تغيَّرَت في ظل الأزمة. ولذلك، يؤكّد خواجة أن سعر الربطة المنتظر “سيؤثِّر على موظفي الدولة، أي ان هناك نحو 270 ألف عائلة ستتأثّر بارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى نحو 150 عائلة تحت خط الفقر”. ومع ترجيح تغيُّر أسعار القمح والنفط عالمياً، يصبح “من الضروري أن تؤمِّن الدولة استمرار الدعم”.
واقع الدولة الحالي لا يبشِّر بالخير. ما يُنذر بمزيد من ارتفاع الأسعار وسط التضخّم العام المستمر. ولذلك، لا يرى رئيس جمعية المستهلك زهير برّو احتمال أن تتدخَّلَ الدولة لخفض سعر الخبز. ووفق ما يقوله برّو لـ”المدن”، فإن الجمعية حذّرَت من دعم الخبز لأن “الدعم يجب أن يوجَّه مباشرة إلى العائلات المحتاجة، أي إلى الفقراء وليس دعم الاستيراد الذي يستفيد منه الأغنياء والتجّار، وهو ما بدا واضحاً مع سياسة الدعم المتّبعة منذ بداية الأزمة”.
الحلّ الأنسب في الوقت الحالي هو إيجاد آلية لتمويل “بطاقات خاصة للفقراء، تسمح لهم بالحصول على الخبز بأسعار منخفضة. فضلاً عن إيجاد آلية علمية واضحة لتحديد الأكلاف الحقيقية لصناعة الخبز بدءاً من المواد الأولية وصولاً إلى رواتب العمال وتحديدا هامش ربح لا يتعدّى الـ10بالمئة للأفران، لأن الخبز سلعة رئيسية”. ويرفض برّو تقديم الدعم المباشر للمطاحن والأفران لأن الدعم يعني “إعطاء الأموال لهؤلاء بلا رقابة”.
الحل لن يكون سحرياً ومفاجئاً، بل يحتاج إلى فكفكة آلية السيطرة على هذا القطاع الذي تمتد جذوره إلى بداية التسعينيات. فبعد انتهاء الحرب الأهلية “سيطرَت قوى السلطة على المطاحن والأفران وتحاصصتها ووزّعت الطحين بينها، وتحتكر بذلك إنتاج الخبز وتحدّد سعره وفق الآلية التي تناسبها. وعند أي تهديد لمصلحتها، تسارع المطاحن والأفران إلى الإضراب والتهديد بقطع الخبز من السوق”. وقبل تفكيك هذا الواقع يستبعد برّو الخروج بحلّ مناسب لأن “هناك لعبة بلا نهاية. وأي نقاش حول أسعار مناسبة هو نقاش عقيم طالما أنه يحصل ضمن الآلية نفسها ويُفرَض من الجهات نفسها التي تسيطر على القطاع”.
قطاع صناعة الخبز “يحتاج إلى إصلاح” من ضمن جملة الإصلاحات التي تحتاجها كل القطاعات في البلد. ومع استمرار التضخّم، فإن عودة سعر ربطة الخبز دولار واحد، لا يعني المساواة مع السعر الذي كان قبل الأزمة، لأن القدرة الشرائية لتلك القيمة تغيَّرَت، ولذلك أصبح سعر ربطة الخبز اليوم أثقل على كاهل المواطن مما كان عليه قبل الأزمة. مع الإشارة إلى أن تحديد سعر الربطة بدولار واحد، لا يعني الاستقرار النهائي، بل سيستمرّ التقلّب تبعاً لأسعار القمح والنفط عالمياً، ما يترك المجال مفتوحاً على المستوى الداخلي لتحرّك السعر.