دخل رياض سلامة “شهره الأخير” بانتظار خروجه من حاكمية مصرف لبنان التي شغلها وشغل الناس بها وبه طيلة 30 سنة زخرت بالهندسات الملتوية التي لم تنقطع يوماً، رغم أن أشهرها كان في 2015 و2016 لكنه لطالما مارس وابتدع أنواعاً وأحجاماً مختلفة من تلك الهندسات النقدية والمصرفية التي اتّضح جلياً أنها بين الأسباب الرئيسية للأزمة الكارثية التي وقع فيها لبنان، وتقدّر خسائرها بأكثر من 72 مليار دولار. وينتظر من التدقيق الجنائي (إذا أفرج عنه) أن يلقي عليها ضوءاً ساطعاً حسماً لكل جدل حولها.
لا تبرئة لأحد
وليس في ما سيلي في هذا السياق تبرئة لأي وزير مال سابق ولا تبرئة لحكومات متعاقبة. فالمسؤوليات الجسيمة تبقى على هؤلاء واحداً واحداً. إذ لا يكفي سرد تاريخ هرطقات رياض سلامة، الأجدى والأولى كان إقالته منذ اليوم الأول لتلك الهرطقات التي أوصل تراكمها وغضّ الطرف عنها لبنان الى الكارثة التي هو فيها ومن غير المعروف كيف سيخرج منها.
أخطر الهندسات الآن
مرّت تلك الهندسات في مراحل كثيرة منذ التسعينات، وأخطرها على الإطلاق ما شرع في تنفيذه هذه السنة للتخلّص من خسائر كان يخفيها في ميزانيته تحت بند “موجودات أخرى” والتي ندّدت بخطورتها وعدم شفافيتها عدة جهات منذ بدء ظهورها في 2002/2003، لكن تصديق هؤلاء كان صعباً في الوقت الذي كان فيه سلامة والمنظومة الحاكمة يبيعان الناس أوهام الاستقرار النقدي والبحبوحة الكاذبة المبنية على استقرار سعر الصرف مهما كلّف الثمن.
فضحته حكومة دياب
بعد انفجار الأزمة واعتماد حكومة حسّان دياب على مستشارين مهنيين مستقلّين وعلى شركة “لازار”، تبيّن بوضوح وبالأرقام وللمرة الأولى أن تلك الموجودات الأخرى ليست إلا خسائر هائلة متراكمة، وهي في الحقيقة خسائر من حسابات المودعين بعدما كان مصرف لبنان يعمد الى شفط دولارات المصارف بفوائد مغرية طيلة نحو عقدين من الزمن على الأقل بما يسمّى شهادات الإيداع، وذلك برضى المصارف وجشعها ونهمها للأرباح الخيالية السهلة على حساب الحصافة ودرس المخاطر، كما على حساب الحد الأدنى من أخلاق المهنة المصرفية، إذا كان هناك من أخلاق فيها في لبنان.
16.5 مليار دولار
هذه السنة استفاق سلامة على أن هناك 16.5 مليار دولار منذ 2005-2007 هي دين على الدولة. وخرج من يزعم أن وزير المالية جهاد أزعور وافق لسلامة آنذاك على ذلك الادّعاء، وأن اتفاقاً حصل بين الطرفين في العام 2007 وهناك ما يثبت ذلك بالوثائق. لا وثائق ولا من يحزنون كما يدّعي سلامة، فلم يعترف السنيورة ولا أزعور ولا وزراء المال الذين أعقبوهما وصولاً إلى الوزير غازي وزني في العام 2020 بما يروّج له سلامة من دين بالدولار منحه مصرف لبنان للدولة بمبلغ 16.5 مليار دولار. ولا يظهر في القيود المحاسبية لوزارة المال أثر البتة لتلك الديون الدولارية، علماً بأن أي دين بالعملة الأجنبية يجب أن يمرّ في مجلس النواب لإقراره كما كان يحصل دائماً في إصدارات سندات اليوروبوندز واتفاقيات القروض الخارجية الأخرى مع مؤسسات وصناديق تمويلية دولية.
فيول كهرباء لبنان
كانت الدولة عند حاجتها للدولار، مثل تلبية مؤسسة كهرباء لبنان لزوم شراء الفيول، تطلب من مصرفها (أي مصرف لبنان) إجراء عملية صرافة عادية: تمنحه ليرات ويزوّدها في المقابل بدولارات. وليس في ذلك، بتأكيد من وزراء المال منذ جهاد أزعور إلى غازي وزني مروراً بكلّ من محمد شطح وريا الحسن ومحمد الصفدي وعلي حسن خليل (2005 -2020)… أي دين جديد بالعملة الأجنبية جدير أن يضاف على عاتق الدولة.
كانت الدولة تدفع الثمن (الفيول وغير الفيول الذي يحتاج إلى دولار) من حسابها رقم 36 أو من خلال إصدار سندات خزينة. ويسجّل في الميزانية العامة للدولة أولاً بأول الدين العام، وهي منشورة على موقع وزارة المال، كما أن الدين العام بالدولار منشور بتفاصيله لا سيّما في الكتيبات التي استخدمت لإصدارات اليوروبوندز وذلك بالتفصيل بين اقتراض وسداد. مثلما أن كل تقرير لصندوق النقد وفقاً للمادة الرابعة يتضمّن جدولاً بالدين العام كما كل تقرير فصلي للصندوق يذكر الأرقام المحدثة.
الدولة منحته الدولارات
والدولة عندما كانت تحصل على دولارات من مصادر مختلفة، أبرزها إصدارات اليوروبوندز، تودعها في مصرف لبنان وتأخذ مقابلها ليرات منه، فهي تنفق بالليرة وليس بالدولار. والى جانب حصيلة اكتتابات اليوروبوندز كانت الدولة تحصل على دولارات أيضاً من قطاعات أخرى مثل الاتصالات والخدمات الجوية وكل خدمة مدولرة. باختصار، كانت الدولة تشتري منه دولارات وتبيعه دولارات. وفي دراسة للدكتور والاقتصادي المخضرم توفيق كسبار، يتأكد استناداً إلى أرقام رسمية 100%، أنه بين 2009 و2019 قدّم مصرف لبنان للدولة 13 مليار دولار مقابل حصوله على ليرات مقابلها. في الفترة نفسها حوّلت الحكومة اليه 17.5 مليار دولار هي حصيلة اكتتابات في سندات الدين يوروبوندز، مقابل اكتتابه بسندات خزينة بالليرة. وهو أعاد بيع اليوروبوندز في الأسواق مقابل دولارات “فريش”… إذاً من يكون أقرض من بالدولار؟!
إلتبس الأمر عليه؟
ربما يلتبس الأمر على سلامة في أضعف الإيمان، والأصدق أنه يتذاكى بشأن اتفاق ما مسبق مع الحكومة بشأن ما يدّعيه من ديون. للإيضاح وقّعت الحكومة عام 2007 اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي مدته سنة. نصّ الإتفاق على دور للدولة بتزويد مصرف لبنان بالدولارات عندما تحصل عليها لتعزيز احتياطي العملات. فالاتفاق مع الصندوق يوجب ألا يقلّ الاحتياطي عن مستوى معين لضرورات الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة. كما نصّ على تدقيق في حسابات مصرف لبنان، تدقيق قبله سلامة على مضض وسرعان ما تخلّص من هذا الشرط في السنة اللاحقة عندما تغيّرت الحكومة وتعذّر تجديد الاتفاق مع صندوق النقد. علماً بأن في ذلك الاتفاق أيضاً آلية للفصل بين السياستين المالية والنقدية، والعمل تدريجياً على إعادة النظر في سياسة تثبيت سعر الصرف إذا تعذّر الحفاط على مستوى معين من احتياطي العملات الصافي… تخلّص من الاتفاق، وعادت حليمة إلى عادتها القديمة.
لعبة بدأت في 2003
قبل ذلك، ومنذ العام 2003 كان مصرف لبنان بدأ إصدار شهادات، وشراء وبيع سندات وشهادات بخسارة، وعمد اعتباراً من 2004 إلى “سوابات” (استبدال وتمديد آجال) رداً على وزارة المال التي أوقفت مرحلياً الإصدارات لخفض الفوائد، فامتعض وغيّر قواعد اللعبة ليكون سيّدها. وعند سؤاله يردّ بأن الهدف ضبط السيولة، لكنّ الهدف من الإصدارات و”السوابات” هو الحصول على دولارات ليعزّز بها الاحتياطي نظرياً ولأغراض أخرى (في أجندة خفية) أبرزها إغراء المصارف وتربيحها من فوارق الفوائد مهما كلّف الثمن. بذلك بدأ يحشر وزارة المالية أكثر فأكثر اعتباراً من 2005 و2006 بمستويات فائدة مرتفعة تجبر الدولة على الاقتراض بتلك المستويات ما يفاقم الدين العام وخدمته. أي أنه كان يخسر في عملياته ويجعل الدولة خاسرة أيضاً، أما الرابح الوحيد فكانت المصارف التي حرص سلامة دائماً على تربيحها وتكبيرها… حتى انفجرت! كما أنّه كوّن محفظة من السندات يضارب بها كلاعب أول في السوق (بخسارة!) في خروج سافر عن مهامه الأساسية.
منذ أيام الحريري
منذ بداية “ألاعيب الهندسات”، حصلت خلافات كثيرة بين وزارة المالية ومصرف لبنان، وعند الاحتكام الى رئيس الحكومة آنذاك الشهيد رفيق الحريري (في 2003 على سبيل المثال) كان سلامة يخرج منتصراً بادّعاء أنه لا يكلّف الدولة قرشاً واحداً وأن عملياته نقدية ضرورية لشفط السيولة وحفظ الاستقرار، وأن لا خسارة لديه. كما لم يكن سرّاً أن خلافات أخرى نشبت بين مصرف لبنان ووزارة المالية في 2005 و2006 حول اعتراض الوزارة على أسلوب بيع شهادات الإيداع بما يثقل ميزانية مصرف لبنان ويضارب على الدولة رافعاً عليها كلفة الدين العام. وما تسريبات ويكيليكس لاحقاً إلا الدليل الإضافي على ذلك الخلاف الجوهري، علماً بأن في التسريبات ما هو منسوب للسنيورة وأزعور.
خسائر مخفية 15 سنة
ولزيادة إيضاح الورقة المستورة، يذكر أن مصرف لبنان كان حصل (أو استحصل؟!) في 2003 على رأي من مدقّقي حسابات البنك المركزي يسمح بتسجيل خسائر، على أن تطفأ (أو تستهلك) تلك الخسائر في غضون 15 سنة. وكان الوزيران جهاد أزعور وسامي حداد وآخرون من أشدّ المحذّرين من تلك الآلية غير السويّة. إذ سمح له ذلك الرأي الخطر بإخفاء الخسائر طيلة تلك المدة، حتى أنه أول اندلاع الأزمة في تشرين 2019 رفض الاعتراف بالخسائر. ثم كان ذلك مدار خلاف عميق مع شركة “لازار” وحكومة حسان دياب ومستشاريها في 2020 عندما ادّعى انها ليست خسائر وباستطاعته تغطيتها مع الزمن بعمليات “سنيوراج” (طبع عملة) أو أنه سيغطّيها من صندوق تنشئه الدولة لإطفاء الخسائر! إلى أن أذعن في الأخير، وبدأ الإعتراف، لكنه يرفض قبول أن الخسائر نتاج ارتكابه الخطايا النقدية والمالية والمصرفية ذات الصلة، بل برأيه هي على الدولة ويعمد حالياً الى تحويلها على عاتق هذه الدولة (المسكينة المستباحة!) بموافقة من وزير المال يوسف خليل ربما، وهنا الطامة الكبرى. ويشمل ذلك ملف الـ16.5 مليار دولار آنف الذكر، إضافة الى أكثر من 42 ملياراً يدعي أنها خسائر قطع تكبّدها للحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة. بعدما كان ولسنوات طويلة يزعم أنه على دراية بما يفعل وأنه مهندس نقدي ومالي ومصرفي لا يشق له غبار، وأن الاستقرار النقدي لا يكلّفه شيء يذكر مع تطمينات بأنه لا يمسّ الودائع، أعطاها لكل الحكومات المتعاقبة بلا أي استثناء !
إفادة المصارف المحظية
مثلما يذكر أنه ومنذ 2003-2004 عندما كان يلجأ للهندسات وإصدارات شهادات الإيداع و”السوابات” كان يفيد مصارف قليلة في البداية، وعندما تعرف مصارف أخرى يعمل على إرضائها. وهذه البنوك المحظية وهي الكبيرة حجماً وكانت تركب أدوات، مثل جذب الودائع بفوائد مرتفعة (بونزي؟) على أساس ما يقوم به مصرف لبنان وتحقق الأرباح الخيالية. فلو كان يلجأ الى السوق المفتوحة لحصل على فوائد أقل. لكنه آثر “لعبته المفضلة” مع المصارف المحظية. ساد ذلك أكثر من 10 سنوات قبل الوصول الى الهندسات التي أجريت في العام 2016 وانفضح أمرها ليس محلياً وحسب بل عالمياً ما دفع بالمستثمرين بسندات اليوروبوندز الى التوقف عن الاكتتاب بها، لأن الهندسات التي قام بها سلامة هي خير دليل على إفلاس آتٍ لامحالة… وأتى!
58 ملياراً بأسعار اليوم
إذاً، ليس في قيود وزارة المالية ما يدّعيه سلامة اليوم، فالدين العام بالدولار معروف ومسجّل، ومعلوماته منشورة وكان صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية تراجعها سنوياً وليس فيها لا 16.5 ملياراً ولا 42 ملياراً كما يدّعي رياض سلامة اليوم. وما يقوم به لا يستند الى أي قاعدة محاسبية سليمة، وهو خلافاً للقانون أيضاً إذ إن الدين الأجنبي يجب صدور قانون به من مجلس النواب. أما وأنه يسجّلها اليوم بالدولار وبأسعار صرف اليوم وهي لسنوات طويلة خلت، فتلك هرطقة أخرى لا يمكن أن تستقيم في علوم المال المحاسبة على الإطلاق، لانها ارقام ترقى الى مراحل كان فيها سعر الصرف وطيلة عقود عند نحو 1500 ليرة للدولار.
بعض الإستنتاجات الإضافية
أما الحكومة الحالية برئاسة نجيب ميقاتي، فلا يمكن لها أن تدّعي أنها وقعت اتفاقاً مع صندوق النقد وأنها أعدّت تشريعات لا يقرّها مجلس النواب وهي من بطء الإصلاح براء! فهي أعجز من أن تقول لمصرف لبنان كلمة حق، لا بل ترعاه وتحميه بأشفار العيون كما فعل رئيسها عند عدة مفاصل أساسية في السنتين الماضيتين. أما سلامة فيكافئ الدولة التي تحميه بأن يرمي عليها 58 مليار دولار ديناً جديداً يستحيل معه أي اتفاق مع الصندوق لا اليوم ولا بعد 20 سنة بحيث تبلغ نسبة الدين إلى الناتج 700 الى 800%. وبذلك تكون حكومة ميقاتي ليس أفشل فقط بل أخطر حكومة مرّت في تاريخ لبنان على الإطلاق… سيذكر التاريخ ذلك لا محالة، وإن غداً لناظره قريب!