ما يقوم به مصرف لبنان لجهة التخلّي نهائياً عن تمويل استيراد البنزين وإعادة توجيه الطلب على الدولارات اللازمة لاستيراد الكميات، نحو السوق الحرّة سيحفّز ارتفاع سعر الدولار ويغذّي تسارع التضخّم في كافة أسعار السلع والخدمات
بناء على طلب مباشر من مصرف لبنان، تقوم وزارة الطاقة بإصدار تسعيرة المشتقات النفطية لتضمينها التخلّي التدريجي عن تسعير البنزين المستورد على سعر «صيرفة». هذا القرار أثار بلبلبة متكرّرة في السوق يتوقع أن تستمر خلال الأسابيع المقبلة حتى يتخلّى المصرف المركزي بشكل كامل ونهائي عن تمويل واردات البنزين. ورغم أن هذا الأمر يهدف بشكله الظاهر إلى وقف النزف بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، إلا أنه يعني أيضاً أن المصرف المركزي لم تعد لديه قدرة واسعة للسيطرة على سعر الصرف، بالتوازي مع إعادة توجيه الطلب على الدولار من «صيرفة» إلى السوق الحرّة بقيمة تقدّر بنحو 200 مليون دولار شهرياً، وهذا وحده كاف لتحفيز التوقعات بارتفاع سعر الصرف.
في الواقع، يسعى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى «نفض» يده من المسألة وإلقاء اللوم بشكل كامل على وزارة الطاقة. إنما هذه الأخيرة لم يعد لديها أي هامش للتحرّك في تسعير المشتقات النفطية طالما أن محركات السعر الأساسي هي سعر الدولار في السوق الحرّة، وسعر البنزين العالمي. لكن المركزي، أثبت أنه لا يكترث لتبعات ما يقوم به على المجتمع. والحكومة أيضاً تقف هي الأخرى متفرّجة على التشوّهات الاقتصادية التي تخلقها السياسات النقدية التي يتبعها المصرف المركزي. فرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لم يدع الوزراء إلى اجتماع وزاري كالذي حصل الأسبوع الماضي، إلا لـ«تلبيسهم» موافقة جماعية على زيادة الدولار الجمركي، ولا يعنيه أن يقوم مصرف لبنان بتحفيز الطلب على الدولار في السوق الحرّة، ولو أن ذلك يؤدي تلقائياً إلى زيادة سعر الدولار. وتبعات زيادة سعر البنزين لا تنحصر بذلك، إذ إن زيادة أسعار البنزين ستؤدي إلى ارتفاع أكلاف النقل للأفراد والسلع، وكل ذلك سيحفّز التسارع في تضخم الأسعار. أما رئيس مجلس النواب نبيه برّي، فما زال يرفض استبدال تمويل البنزين بتمويل الفيول أويل لزوم تشغيل معامل الكهرباء، أي أن قوى السلطة ستأخذ كل شيء من دون أن تقدّم أي تنازل عن خلافاتها السياسية الضيّقة من أجل تقليص الأعباء عن المجتمع والاقتصاد. رفض بري لهذه العملية ينبع من رغبته في إنهاء عهد الرئيس ميشال عون من دون أي «إنجاز» ولو كان بسيطاً مثل زيادة التغذية بالتيار الكهربائي لأربع ساعات بكلفة تبلغ 130 مليون دولار شهرياً كان المصرف المركزي يؤمنها عبر «صيرفة» شهرياً لتمويل استيراد البنزين.
إذاً، بعد أقل من شهر سيبدأ احتساب سعر صفيحة البنزين بنسبة 100% على أساس سعر صرف السوق الحرّة، مع توقّف مصرف لبنان تمويل البنزين بشكلٍ نهائي على سعر «صيرفة»، ما سينتج منه طلباً إضافياً على الدولار في السوق بقيمة تقدرّ بنحو 200 مليون دولار، وسينعكس ذلك ارتفاعاً في سعر الصرف طالما أنه ليست هناك إجراءات أخرى لضخّ الدولارات في السوق. وهذا يعني أيضاً أن سعر صفيحة البنزين سيكون خاضعاً لتقلبات سعر الدولار في السوق الحرّة ما سيتطلب من وزارة الطاقة إصدار جدول التسعير بوتيرة أسرع من الوتيرة الحالية.
وفي نهاية الأسبوع الماضي استكمل مصرف لبنان، للأسبوع الثالث على التوالي، إجراءات خفض تمويل استيراد البنزين عبر «صيرفة»، ما خلق أزمة لدى أصحاب المحطات الذين تآكلت جعالتهم لأنهم مجبرين على دفع نسبة من سعر البنزين على سعر دولار السوق الحرّة الذي أخذ بالارتفاع السريع. فالمحطات تحصل من كل صفيحة على 25 ألف ليرة وعليها أن تؤمّن ثلث قيمة مبيع الصفيحة على سعر السوق الحرّة، ما يعني أنه عليها أن تدفع كامل جعالتها وربما أكثر لتغطية سعر الصفيحة الرسمي البالغ 568 ألف ليرة قبل جدول تركيب الأسعار اليوم. لذا، اتخذت المحطات المملوكة من أفراد، أو شركات صغيرة غير مستوردة للنفط، قراراً بوقف البيع، ما خلق أزمة طوابير منذ مساء الأحد الماضي في انتظار صدور تسعيرة جديدة للبنزين تأخذ في الاعتبار ارتفاع سعر الدولار على صيرفة وفي السوق الحرّة أيضاً. وهذا بدوره أدّى إلى تكبيد المستهلكين الكلفة.
التسعيرة الجديدة التي أصدرتها وزارة الطاقة بناء على طلب مصرف لبنان، مقسّمة على أساس 45% من سعر الصفيحة بدولار السوق الحرّة، والباقي بدولار صيرفة، وذلك بعدما كانت مسعّرة بنسبة 70% على «صيرفة» والباقي بدولار السوق الحرّة. إذاً، هذا ما سيكون عليه الأمر في حال استكمل مصرف لبنان سياسة التخلي عن تمويل استيراد البنزين بدولارات «صيرفة»، أي المزيد من الطوابير حتى يصبح سعر البنزين بقيمة 20 دولاراً أو 21 دولاراً (وفق الأسعار الحالية).
وكان مصرف لبنان قد بدأ في تموز الماضي بسياسة التخلّي عن تمويل البنزين، وعمل على خفض تمويل «صيرفة» من 100% إلى 85%، واستكمل الثلاثاء الماضي خطواته في الاتجاه نفسه ليصبح 70%، ثم أمس إلى 55%. ما يعني أن نصف كمية الدولارات الضرورية لاستيراد البنزين بات يؤمنها مصرف لبنان عبر «صيرفة» على سعر 26.900 ليرة، والنصف الآخر يشتريه التجار على السعر الموازي الذي تقلّب بالأمس بحدود قريبة من الـ34 ألفاً، أي بفارق 7 آلاف ليرة. وفي التداعيات سجّل سعر صفيحة البنزين ارتفاعاً بقيمة 16 ألفاً. وفي حال التحرير الكامل، وبسعر اليوم للدولار، فإن سعر مبيع صفيحة البنزين سيبلغ بعد احتساب الأسعار العالمية والأكلاف الثابتة بالليرة، يساوي 697 ألف ليرة وفق سعر صرف يبلغ 34 ألف ليرة، أي بفرق 106 آلاف ليرة عن السعر المعتمد في جدول تركيب الأسعار الصادر عن وزارة الطاقة صباح أمس.
لكن المشكلة الأساسية أن مصرف لبنان يغذّي ارتفاعاً متواصلاً في سعر البنزين، فالتحرير يعني مزيداً من ارتفاع سعر الدولار الذي يؤدي إلى مزيد من ارتفاع سعر الصفيحة. هذه الحلقة ستغّذي بعضها وستؤدي إلى تسارع التضخّم في كافة الأسعار.