بحسب الرسالة التي وجّهها رياض سلامة الى رئاسة الحكومة في نهاية آب الماضي، فإن الاحتياطي القابل للاستعمال، والذي كان يقتصر على ملياري دولار، سينضب في نهاية العام. بعد أيام ينتهي العام فعلياً على وقع تصريح جديد من سلامة يفيد بأن الاحتياطي لا يزال ملياري دولار! التصريح هذا يُناقض أيضاً ما طرحه المصرف في المجلس النيابي وفي السراي الحكومي. فهل الأمر مرتبط بأموال جديدة دخلت إلى مصرف لبنان أم بلعبة جديدة من حاكم المصرف؟
صار الحديث عن الانهيار الكلّي على كل شفة ولسان. المسؤولون يتعاملون معه كأنه محطة عادية. كأنه عجز محقّق في الموازنة، اعتادوا معالجته بمزيد من الاستدانة. حتى ملف الدعم وُضع على الرفّ، بعدما «أنجزت» الحكومة مهمّتها وأحالت السيناريوات المقترحة إلى مجلس النواب.
كان يُتوقع أن تعقد اللجان المشتركة اجتماعاً ثانياً لها لمناقشة الملف، إلا أن الأمل الكاذب الذي بثّه الرئيس سعد الحريري عن قرب تأليف الحكومة أجّل الموضوع، على اعتبار أن تأليف حكومة جديدة كان يستوجب أن تكون هي من يُقرّر وجهة الدعم.
طبعاً ليس المجلس النيابي هو الذي سيُقرر، كما أنه من غير الواضح كيف سيتعامل مع رسالة السراي، فلا هو مشروع قانون مرسلاً من الحكومة، ولا هو قراراً حكومياً يمكن للمجلس مناقشته في إطار الرقابة البرلمانية. في الأساس، لم يسبق أن أحالت الحكومة إلى المجلس مسودة قرارات يمكن أن تتخذها بنفسها. كل ذلك لم يعد مهماً على ما يبدو. الديباجة اكتملت. رئيس الحكومة يرفض دعوة مجلس الوزراء إلى الاجتماع لاتخاذ القرار، كما يرفض تحمّل ثقل أي قرار يتعلق برفع الدعم، ومصرف لبنان يرفض تحمّل مسؤولية قرار كهذا أيضاً. لذلك، لم يبق في الميدان سوى مجلس النواب، ليس بصفته الدستورية، بل بصفته أقرب إلى مجلس ملّيّ، يضم تحت قبّته ممثلي الأغلبية الساحقة من المكونات السياسية. مع ذلك، ليس واضحاً كيف سيكون الإخراج، يقول نواب معنيون، لكن ما هو مؤكد أن المجلس النيابي تسلّم الإحالة على سبيل «الاستئناس».
بعيداً من السيناريوات الموضوعة لمسألة تخفيف الدعم، والتي كانت تعاملت مع الملف على أساس أن الاحتياطي الإلزامي انخفض عن مليار دولار، أعاد حاكم مصرف لبنان في تصريحه إلى قناة «الحرة»، قبل أسبوع، خلط الأوراق مجدداً، من خلال إعلانه وجود ملياري دولار من الاحتياطي القابل للاستعمال. وهو ما فاجأ معنيين مباشرين بالأمر. فمقاربة مسألة الدعم كانت انطلقت في الأساس منذ كشف المصرف المركزي، في آب، عن وجود ملياري دولار قابلة للاستخدام. سلامة أعلن حينها أن الدعم يكفي حتى نهاية العام.
ذلك كان الرقم الأول الصادر عن المصرف، لكن تبعته أرقام أخرى بعد ذلك. على سبيل المثال، كشف النائب الثاني لحاكم مصرف لبنان سليم شاهين، في اجتماع اللجان النيابية المشتركة، كما نقل عنه نواب، قوله إن المتبقّي هو 800 مليون دولار فقط.
من هذا المنطلق، شكّل الرقم الذي أعلن عنه سلامة صدمة حتى بالنسبة إلى المقرّبين منه. في المصرف المركزي والمجلس المركزي كثر لا يعرفون مصدر هذا الرقم. وهم ينتظرون اللقاء به لاستيضاحه الأمر. فمبلغ المليارين مريح نسبياً، وهو يقارب ثلاثة أضعاف الرقم الرسمي الذي ورد إلى مجلس النواب من قبل رئاسة الحكومة التي عقدت سلسلة اجتماعات مع حاكمية المصرف المركزي والوزراء المعنيين للتوصل إلى اتفاق على خفض الدعم. في رسالتها إلى مجلس النواب، أوضحت رئاسة الحكومة، نقلاً عن وزارة المالية، أن الاحتياطي الإجمالي لدى مصرف لبنان يبلغ 17 ملياراً و690 مليون دولار، بينها 17 ملياراً و100 مليون دولار احتياطي إلزامي، ما يعني أن المبلغ الذي يمكن التصرف به لا يزيد على 590 مليون دولار.
في النتيجة، صار أمام المعنيين ثلاثة أرقام للاحتياطي: 590 مليون دولار، 800 مليون دولار، ومليارا دولار. مع أي منها يفترض التعامل؟ ذلك يقود أساساً إلى تعزيز نظرية المشككين في أرقام المصرف. مع ذلك، يبقى السؤال الأساس من أين أتى حاكم مصرف لبنان بمبلغ الملياري دولار الذي أشار إليه في مقابلته مع «الحرة»؟
مصادر وزارية ترى أن المسألة تتعلق بطريقة الاحتساب لا أكثر. فإجمالي الودائع كان 114 مليار دولار، وقد انخفض إلى 107 مليارات دولار حالياً. وليس بالضرورة أن يخضع كله لنسبة الـ15 في المئة الخاصة بالودائع الإلزامية. لكن الضبابية التي يتحدّث بها المصدر الوزاري، تناقضها مصادر مصرفية تشير إلى أن مبرر التصريح عن وجود ملياري دولار يعود إلى كون مصرف لبنان نجح، بالاتفاق مع البنك الدولي، في أن يصار إلى تحويل القرض الخاص بالأسر الأكثر فقراً (وافق عليه مجلس إدارته) إلى مصرف لبنان (256 مليون دولار)، على أن يعمد الأخير إلى الدفع للأسر المستفيدة بالعملة المحلية وفق سعر 3900 ليرة للدولار. كذلك، يشير المصدر إلى أنه تم الاتفاق مع مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، والتي خصصت ما يُقارب مليار دولار للاجئين السوريين، على الأمر نفسه، أي الحصول على الدولارات النقدية، واستبدالها على سعر المنصة. لكن ألا يُشكّل ذلك ضرراً على الفئات المستفيدة، التي بدلاً من حصولها على الدولارات النقدية وتحويلها على سعر السوق، ستضطر إلى الحصول عليها على سعر يقل عن النصف؟ المصادر تُخفّف من وطأة تأثير القرار، على اعتبار أن السلة الاستهلاكية الإجمالية للأسر ارتفعت نحو 150 في المئة، ولم ترتفع بمقدار ارتفاع سعر الدولار!
في المقابل، تسأل مصادر وزارية عن سبب عدم إبلاغ سلامة الحكومة رسمياً بهذا المتغيّر، ولماذا أصرّ في الاجتماعات على أن الاحتياطي المتبقي يقل عن مليار دولار؟
هل يمكن أن يؤثّر هذا التعديل في مسار تخفيف الدعم؟ عملياً، تخفيف الدعم صار أمراً واقعاً. وأول من بدأ تطبيقه فعلاً هو وزارة الاقتصاد، بالتنسيق مع مصرف لبنان، إذ قلصّت المبلغ المخصص لدعم المواد الغذائية والمواد الأولية الخاصة بالزراعة والصناعة من 210 ملايين دولار شهرياً إلى 80 مليوناً. وبحسب كل المؤشرات، فقد صار محسوماً تقليص المبلغ المخصص للدعم، والذي يراوح، بحسب مصرف لبنان، بين 500 و600 مليون دولار شهرياً.
لكن بدلاً من أن تؤدي الاجتماعات المكثفة التي شهدها السراي الحكومي إلى الخروج بقرار واضح، فضّلت رئاسة الحكومة ترك المهمة لمجلس النواب، مقترحة أربعة سيناريوات، هي الآتية:
أولاً: إصدار بطاقة تمويلية لـ600 ألف أسرة بقيمة متوسطة تبلغ 165 دولاراً للأسرة، مقابل التوقف عن دعم المحروقات والقمح والسلع الأساسية.
ثانياً: الإبقاء على دعم القمح بنسبة 100 في المئة، وعلى البنزين والغاز لمدة شهرين، والمازوت جزئياً لمدة عام، مع خفض المحروقات للكهرباء بنسبة 10 في المئة. وفي هذا السيناريو تحصل الأسر على 140 دولاراً شهرياً بغض النظر عن عدد أفرادها.
ثالثاً: يضاف إلى السيناريو الرقم 2 دعم الغاز لمدة عام والسلع الأساسية لمدة 3 أشهر بمعدل 80 مليون دولار (بدأت تنفيذه). وتخفّض قيمة البطاقة التمويلية إلى 108 دولارات شهرياً.
رابعاً: يضاف إلى السيناريو الرقم 3 الدعم للسلع الأساسية لمدة سنة، كما يزاد الدعم على المازوت حتى 90 في المئة من حاجة السوق، واستبدال الدعم على البنزين ببطاقة تمويلية خاصة لمادة البنزين وفق معايير محددة تجري دراستها حالياً (٤ صفائح للسيارات الخاصة ومتوسط 24 صفيحة للسيارات والفانات العمومية).