أقل من خمسة أشهر تفصل لبنان عن انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في نهاية شهر أيّار مقبل. في الظاهر، يكرّر الرجل أمام الإعلام الحديث عن استعداده لمغادرة منصبه في هذا الموعد، وعدم اهتمامه بتجديد ولايته. لكن بعيدًا عن عدسات الكاميرا تتسارع المداولات التي تقودها الرئاستان الثانية والثالثة، للدفع باتجاه تمديد ولاية الرجل، عبر تعديل قانون النقد والتسليف، الذي تحدد مادته الـ18 ولاية الحاكم بست سنوات.
ارتفاع أسهم السيناريو
وفقًا لهذا السيناريو، الذي ترتفع أسهمه بسرعة كل يوم، لن نكون أمام تعيين للحاكم في ولاية جديدة من ست سنوات، كما جرى في أيّار 2017، وهو ما كان سيستدعي مرسوم صادر عن مجلس الوزراء. بل سنكون أمام تعديل استثنائي للقانون عبر مجلس النوّاب، لإطالة الولاية نفسها التي بدأت عام 2017، لسنتين أو سنة ونصف.
وبذلك، سيُضاف إلى المادّة 18 من قانون النقد والتسليف إحدى تلك الجمل المشؤومة التي تبدأ بعبارة “لمرّة واحدة وبصورة استثنائيّة…”، في استعادة لتلك العبارات سيئة الذكر التي أضيفت إلى المادّة 49 من الدستور، للتمديد للرؤساء السابقين إميل لحود والياس الهرواي وبشارة الخوري. الفارق هذه المرّة، هو أنّ تمديد ولاية حاكم المصرف المركزي لن يحتاج إلى أكثر من قانون يمكن أن يمر بالأكثريّة في مجلس النوّاب، لا تعديل دستورياً يحتاج إلى موافقة ثلثي مجلس النوّاب.
الأسباب الموجبة
الأسباب الموجبة لهذا التمديد باتت حاضرة لكل فريق من الفرقاء المتحمّسين لهذا السيناريو. الفراغ الرئاسي وعدم وجود حكومة مكتملة الصلاحيّات يحولان دون اتخاذ حكومة تصريف الأعمال قرار مصيري بحجم قرار تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان. وفي الأصل، وحتّى لو توسّع نطاق تصريف الأعمال ليشمل تعيين حاكم للمصرف المركزي، يعتبر “فريق التمديد” أنّه من غير الجائز إلزام العهد المقبل بحاكم موروث من حكومة تصريف الأعمال، لمدّة ست سنوات كاملة. وعلى هامش هذا النقاش، تبرز الهواجس الميثاقيّة المعتادة: كيف يمكن أن يتم اختيار الشخصيّة التي ستحتل موقعًا مارونيًا أساسيًّا في الدولة، أي الحاكم، من دون مشاركة رئيس الجمهوريّة الماروني في هذا القرار؟
بغياب القدرة على تعيين حاكم جديد، تُطرح سيناريوهات الفراغ في سدّة الحاكميّة. الحل البديهي يفترض أن يكون إحالة الصلاحيّات إلى نائب الحاكم الأوّل، وفقًا لأحكام المادّة 27 من قانون النقد والتسليف، التي تشير بصراحة إلى أنّه “بحال غياب الحاكم أو تعذّر وجوده يحل محلّه نائب الحاكم الأوّل”. إلا أنّ هذا السيناريو –وفقًا لفريق التمديد- سيثير مجددًا هواجس طائفيّة لا تقل حساسيّة عن سيناريو تعيين الحاكم في هذه المرحلة، لكونه سيعني ببساطة إحالة صلاحيّات الحاكم الماروني إلى نائبه الشيعي، المحسوب بالمناسبة على فريق رئيس المجلس النوّاب نبيه برّي.
وعند الوصول إلى هذه النقطة، يذكّر هؤلاء بموقف البطريرك الماروني الذي كرّس موقع الحاكم كخط أحمر، حين هددت الضغوط السياسيّة –أيام حكومة حسّان دياب- استمراريّة الحاكم في موقعه. فكيف سيكون الحال حين يُطرح على بساط البحث سيناريو مغادرة الحاكم، وإحالة صلاحيّاته إلى نائبه الشيعي؟ وعند هذه النقطة من النقاش، يراهن المتحمّسون لسيناريو التمديد على هذه الإشكاليّات بالتحديد، لتبرير خطوة كهذه أمام الشارع المسيحي بالتحديد.
وعلى هامش الهواجس الطائفيّة، تُطرح هواجس ذات طابع مالي ومصرفي، من قبيل التساؤل عن مستقبل علاقة المصرف المركزي مع وزارة الخزنة الأميركيّة، في حال تسليم إدارة المصرف المركزي إلى شخصيّة شيعيّة. مع الإشارة إلى أنّ هذه الحجّة بالتحديد، التي يتكرّر ذكرها إعلاميًّا، لا تنسجم كثيرًا مع موقف وزارة الخزنة الأميركيّة، التي تتعامل ببراغماتيّة مفرطة في الملفات الماليّة، وفقًا لقواعد عمل المؤسسات الماليّة وإجراءاتها، ومدى انسجامها مع قواعد الامتثال ومكافحة تبييض الأموال الأميركيّة.
في المقابل، ستملك رئاسة مجلس النوّاب روايتها الخاصّة لرفض هذا السيناريو. فإذا كان البطريرك حريص على موقع الحاكميّة الماروني وصلاحيّاته، فرئيس مجلس النوّاب حريص على عدم تحميل النائب الأوّل الشيعي، المحسوب عليه، كرة نار التعامل مع الأزمة المصرفيّة وتبعاتها النقديّة، مع كل ما يحتاجه ذلك من تعاميم وإجراءات غير شعبيّة. وبعد أن نال سلامة نصيبه من النقمة الشعبيّة بسبب كل هذه القرارات، سيتمكّن رئيس مجلس النوّاب من تبرير رفضه لسيناريو تسليم النائب الأوّل صلاحيّات الحاكميّة، من بوابة تفادي النقمة الشعبيّة التي أصابت سلامة.
بهذا الشكل، سيكون لدى كل طرف أسلحته الخاصّة لتبرير سيناريو التمديد أمام شارعه. لا بل سيسوّق البعض هذا الخيار على أنّه إجبار لرياض سلامة لتحمّل مسؤوليّاته، والاستمرار بإدارة الأزمة التي ساهم بصنعها، طلما أنّه الأكثر دراية بدهاليز النظام المالي وسوق القطع وألغامهما. وهذا النوع من الحجج، هو تحديدًا ما استعملته الغالبيّة الساحقة من القوى السياسيّة منذ 2020 أمام الدوائر المقرّبة منها، التي تساءلت عن سر استمرار الحاكم في منصبه وعدم استبدالها، رغم اشتداد الضغوط القاضيّة الخارجيّة على لبنان. وفي نهاية كل نقاش من هذا النوع، كان يتكرّر استعمال المنطق الذي يقول أن من خربها هو الأكثر قدرة على إصلاحها.
سلامة والهياكل العظميّة
لكن ماذا عن سلامة نفسه؟ الشخص المعني بكل هذا النقاش، والذي يكرّر القول أنّه مهتم بمغادرة موقعه في نهاية شهر أيّار المقبل. في واقع الأمر، يدرك سلامة نفسه أنّ الخروج من اللعبة ليس بهذه البساطة، وأن ما بيده من صلاحيّات ماليّة ونقديّة هو تحديدًا كل ما يملكه لمقايضة السلطة السياسيّة مقابل الحماية التي يتمتّع بها اليوم، والتي تسمح له –وحتّى إشعارٍ آخر- بالتملّص من كل الملاحقات القضائيّة التي تجري في الخارج.
بصورة أوضح، “لدى سلامة الكثير من الهياكل العظميّة في خزانته”، كما وصف الأمر ذات يوم وزيرا الماليّة والاقتصاد السابقان جهاد أزعور وسامي حدّاد في اجتماع مع السفير الأميركي، وفقًا للمحاضر التي سرّبتها ويكيليكس لاحقًا. هذه الهياكل العظميّة المخبّأة في خزانته، هي تحديدًا ما يجعل من سلامة رهين المنظومة السياسيّة التي تحميه اليوم، ورهين اللعبة التي يديرها مع هذه المنظومة، وهي ما سيدفع الرجل إلى التمسّك بموقعه حتّى تأمين الخروج الآمن. وتأمين الخروج الآمن، سيظل مربوطًا بما يجري في المحاكم الأوروبيّة، بانتظار توصّل الرجل إلى تسويات تقفل ملفّاته هناك مقابل غرامات باهظة.
في خلاصة الأمر، سيتكامل المشهد هنا مع مشهد خطّة الظل، التي أضمرتها النخبتين السياسيّة والماليّة على مدى السنوات الثلاث الماضية، وعملت على تنفيذها بإتقان. خطّة لا تحمل في طيّاتها تفاهماً مع صندوق النقد، ولا شروطاً إصلاحيّة قاسية على مصالح المنظومة. خطّة تدير الانهيار بتعاميم نقديّة ومصرفيّة متفرّقة، تعيد توزيع الخسائر بالمفرّق بدل توزيعها بعدالة، بخطّة تعافٍ شفّافة وواضحة المعالم. خطّة كهذه، لا يتقن إخراجها إلا شخص كرياض سلامة، مهندس المعالجات المصرفيّة والنقديّة المفضّل لدى هذه النخبة.