انّ أي مشروع قانون من الحكومة او اقتراح قانون من مجلس النواب يهدف الى شطب الودائع من موازنات المصارف مقابل وعود وهمية بإنشاء صناديق ائتمانية او سيادية او صناديق إعادة تكوين الودائع، سيكون خطأ فادحاً وضربة قاضية للثقة والاقتصاد ومخالفة دستورية. وسيُعرّض السلطة لمواجهات قضائية من المواطنين والاجانب الذين يملكون ودائع تفوق الـ 90 مليار دولار. وقد تؤدي الى خسارة الاحتياط الاجنبي لمصرف لبنان، ولتصفية املاك للدولة بالمزادات العامة. انّ اصول مصرف لبنان لا تتمتع بالحصانة المطلقة لتخلّفه عن خدمة دينه وإخفاء وضعه المالي، ولمسؤولية الدولة القانونية عن خساراته.
الديون على مصرف لبنان والدولة لا تُحلّ بشطبها، بل بإعادة جدولتها وبتوفير السيولة والمصادر المالية لخدمتهما. السيولة متوافرة في الاحتياط الإلزامي للمصارف المحتجز في مصرف لبنان. ونعلم انّه على الرغم من الاحتياطات الضخمة و287 طناً من الذهب (ثاني اكبر احتياط في العالم العربي) وقعنا في ازمة اهلكت المواطن والدولة بسبب حجب السيولة عن المصارف.
خدمة الدين تتوافر من مؤسسات القطاع العام بلا بيعها او تحويل ايراداتها الى صناديق وهمية، وبتحسين الوضع المالي العام. وليس من الخطأ بيع جزءٍ منها للقطاع الخاص. اثبتت التجارب الدولية انّ الشراكة مع القطاع الخاص لها وقع ايجابي مهمّ في تحسين إدارة هذه المؤسسات، وتعزيز الترابط بين القطاعين العام والخاص، وخصوصا انّ سوء ادارة مؤسسات القطاع العام كان أحد اهم العوامل التي ادّت الى الأزمة.
لذا، معالجة وضع مؤسسات االقطاع العام هي من الإجراءات الضرورية للخروج من الأزمة وليس للتعويض عن الودائع. وانما الهدف سيكون لإنعاش الاقتصاد أولاً، مما سيوفر الموارد للدولة لدعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ولتوفير الفائض الاولي لخدمة التزامات الدولة بعد إعادة جدولتها.
الأهم هو خلق القدرة على خدمة الدين العام والودائع. لا تستطيع اي دولة خفض ديونها الّا اذا حقّقت فائضاً في الميزان الكلي للمالية العامة لأجيال عدة، ولا يستطيع اي جهاز مصرفي إعادة كل الودائع، وانما الهدف هو تعزيز القدرة على خدمتها وتوافر السيولة المصرفية لديه.
انّ حلّ الوضع المالي لمؤسسات القطاع العام، وحسب الممارسات الناجحة، تبدأ بخصخصة ادارتها من خلال تطبيق معايير المناقصات الدولية، وتُقبل العروض فقط من الشركات العالمية المؤهلة في مجال المؤسسة المستهدفة، وتستند الى دفاتر شروط بمواصفات عالمية. وقد نبدأ بالقطاعات الرئيسية كلٌ على حدة في مجاله (الكهرباء، الاتصالات…). ولا تدعو الحاجة لإنشاء مؤسسة مركزية لإدارة اصول الدولة يديرها القطاع العام نفسه، الذي اثبت عدم كفايته خلال العقود الماضية، مما سيخلق بيروقراطية تتقاسمها الأحزاب.
دول عدة أنجزت الخصخصة الصحيحة لكي يتعافى الاقتصاد وليس لتوزيع الغنائم. معظم مؤسسات القطاع العام تستطيع التعافي خلال فترة وجيزة في اقل من سنة. الكهرباء على سبيل المثال تسطيع ان توفّر ما يوازي 4 مليارات دولار سنوياً اذا أنتجنا 2000 ميغاوات (مليوني كيلووات- معظم حاجة لبنان مع الطاقة الشمسية) من المولدات الكبيرة لشركة كهرباء لبنان ذات التكلفة المنخفضة (بسعر 21 سنتاً للكيلووات) بدلاً من مولدات الأحياء التي تكلّف 45 سنتاً للكيلووات.
التوفير بالساعة لإنتاج مليوني كيلووات سيبلغ نصف مليون دولار، وفي السنة (8760 ساعة) 4.2 مليارات دولار، ويفوق قرض صندوق النقد بعدة اضعاف، المقدّر كلياً بـ 3 مليارات دولارعلى عدة دفعات خلال 4 سنوات. من خلال اصلاح القطاع العام (خصوصاً الكهرباء والاتصالات) تستطيع الدولة خدمة كل الديون المترتبة عليها لليوروبوند والتزامات مصرف لبنان للمصارف بعد إعادة الجدولة والحصول على فترة سماح (موراتوريم) لسنة او سنتين كحدّ أقصى.
بعد نجاح الإدارات الخاصة لمؤسسات القطاع العام يمكن تحويلها جزئياً الى شركات مساهمة محدودة المسؤولية، تُطرح في بورصة بيروت بملايين الاسهم، مع وضع حدود للملكية الفردية (0.05% او اقل) تكون متوافرة للجميع. تستطيع الدولة الحفاظ بثلث الاسهم الصادرة (على سبيل المثال)، وتُخصّص عائداتها لشبكة الأمان الاجتماعي ودعم الضمان الاجتماعي. لذا، جميع المواطنين سيحققون استفادة من إصلاح مؤسسات القطاع العام وليس اصحاب الودائع فقط. كما تَوفّر الاسهم في بورصة بيروت الفرصة لجميع المواطنين الاستثمار في هذه الشركات المتنوعة الجديدة، بدلاً من ان تنحصرالبورصة في اسهم المصارف التي شكّلت معظم رسملتها.
ولا عيب في ان يكون القطاع الخاص شريكاً جديداً في هذه المؤسسات، وطالما دعونا للشراكة بين القطاعين العام والخاص وأصدرنا قانوناً لهذا الغرض. انّ الشراكة مع القطاع الخاص ستخفف من التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف، وبدورها تكلفة خدمة الدين على الدولة.
انّ تحقيق توازن مالي كلي للدولة وفائض مالي اولي يصبح ممكناً من عائدات مساهمة القطاع الخاص (ضرائب وبيع اسهم) ومساهمة الدولة في هذه المؤسسات، وسيدعم القدرة على خدمة التزاماتها والتزامات مصرف لبنان. اما صندوق النقد الدولي، فيرى الازمة من منظار مختلف، فيرى حل ازمة الدين بشطب حقوق الدائن (90 مليار دولار ودائع) لتعزيز قدرة لبنان على اعادة قرض الصندوق البالغ 3 مليارات دولار، بينما سيحافظ على حقوق المؤسسات المالية العالمية الدائنة مثل «بلاك روك» و «أشمور» وغيرها.
تصّر الدولة ومصارف عدة على الحفاظ على مؤسسات القطاع العام في يد الدولة، كونها ملكاً للجميع، ولا يجب استعمالها للتعويض فقط على المودعين، لكي تُكرّس انّ شطب الودائع هو الحل الوحيد. المنطق يقول «اذا أصَرّت الدولة على اتخاذ القرار الخطأ بإنشاء صناديق وهمية فقد تقوم بذلك، ولكن ليس على حساب شطب الودائع اولاً، وانما لنرى نتائج هكذا صناديق اولاً».
فالحل واضح: السيولة متوافرة في مصرف لبنان من ودائع المصارف الإلزامية وتكلفة خدمة دين الدولة (بعد اعادة جدولتها) متوافرة ايضاً من عائدات مؤسسات القطاع العام بعد خصخصة ادارتها وتخصيص رأسمالها جزئياً. الودائع تبقى التزامات في المصارف، والقرار يعود للمودع للتصرّف بها. الدولة تبدو عاجزة عن معالجة الوضع وتعطي أذناً صاغية لصندوق النقد والمصالح الخاصة المحلية والاجنبية.