إذا كان الثمن الأغلى للعدوان الإسرائيلي هم الضحايا المدنيون، فإن التداعيات الأعمق للحرب تقع دائماً على اقتصاده المتهالك أساساً، وعلى قطاعاته الإنتاجية التي تعاني منذ سنوات من ظروف سياسية واقتصادية وأمنية تعاكس دورة الإنتاج، وتقلّص مقومات صمودها.
الصناعات اللبنانية واحدة من القطاعات الإنتاجية التي تضررت بشكل مباشر، وهي ليست على ما يرام. وإذا كان بعضها، مما يقع تحت خطوط النار، توقف كلياً عن العمل منذ توسع العدوان الإسرائيلي من الجنوب إلى البقاع وضاحية بيروت، فإن منتجات كثيرة تراجعت أولوياتها بالنسبة للبنانيين إثر الحرب، فخسر مصنعوها أسواقاً واسعة لمنتجاتهم في لبنان، فيما مقومات صمودها في الأسواق الخارجية، تتأثر بإرتفاع مخاطر النقل والتصدير غير المحفزة على الإستيراد من لبنان.
لا إحصاءات
بحسب وزير الصناعة جورج بوشيكيان “لا يوجد إحصاء واضح حتى الآن حول الأضرار المباشرة التي تسببت بها الحرب. إنما الضرر واقع جراء توقف العمل كلياً في المعامل التي تقع في مناطق المواجهة المباشرة ولا سيما في البقاع والجنوب. ويشير بوشيكيان لـ”المدن” إلى “أن تأثير الصناعات المتوقفة في هذه المناطق محدود جداً ولا يزال تحت السيطرة. مؤكداً أن الوزارة تعمل على إبقاء خطوط التصدير كما تأمين المواد الأولية مفتوحة، من خلال التواصل المباشر مع الأمم المتحدة التي يقع المرفأ تحت سيطرتها منذ حرب تموز 2006″.
الفارق بين العدوان الحالي وحرب تموز كما يقول نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش لـ”المدن” أن إسرائيل لم تلحق أذى مباشراً بالصناعة كما فعلت في سنة 2006. وعليه قد لا نكون أمام مشاهد متكررة لذلك الدمار الذي لحق على سبيل المثال بمعمل ماليبان للزجاج في البقاع الأوسط، ومعمل ليبان ليه في بعلبك، ولكن هذا لا يعني أن الصناعات غير متضررة. فشظايا الغارات التي انهارت على مناطق الجنوب والبقاع والضاحية أصابت معامل كثيرة، منها ما هو مرخص ومنها غير مرخص. والذي لم يصب بهذه الشظايا توقف عن العمل منذ الأسبوع الأول لبدء العدوان على لبنان. ولم يتمكن سوى عدد قليل من المصانع من النزوح بإنتاجه ومعداته إلى مناطق آمنة، خصوصاً أن عملية نقل المعامل تعتبر مكلفة جداً على المصنع.
معامل مناطق الاستهداف
يرسم العدوان الإسرائيلي خريطة صناعية لمعامل لبنان الباقية على إنتاجيتها وتلك التي توقفت عن الإنتاج. وإذا كان العدد الأكبر لهذه المصانع يتركز في منطقة جبل لبنان والمتن الواقعة خارج خطوط النار، فإن نحو 400 معمل من بين 1100 معمل مسجلة لدى جمعية الصناعيين في البقاع تقع في منطقة بعلبك التي تشهد عدواناً يومياً منذ 23 أيلول الماضي. والعدد مشابه في الجنوب الذي طال زمن إقفال مصانعه لفترة أطول. بالإضافة إلى أعداد أقل من المعامل المتواجدة في الضاحية الجنوبية لبيروت. ويقدر نسبة المصانع المتوقفة كلياً وفقاً لبكداش بنحو 30 في المئة من مجمل عدد المصانع. وإذا كان توقف هذه المعامل لم يؤثر على تلبية حاجة السوق بالنسبة نفسها، فإن هذا لا يعني بأن المعامل الموجودة خارج خريطة الاستهدافات قادرة على المتابعة بقدرة إنتاجية مشابهة لما قبل الحرب.
من أبرز المعامل التي تضررت اقتصادياً جراء وقوعها مباشرة في ساحة العدوان، هي تلك التي تصنع ألبسة والأحذية في منطقة الضاحية، والتي يصف مدير عام جمعية الصناعيين طلال حجازي خسائرها بالكبيرة. إذ أن هذه المصانع نشطت منذ بدء الأزمة الاقتصادية مع تراجع الطلب على الملبوسات المستوردة، ولكنها ما إن “قلّعت” بدورتها الإنتاجية حتى لحقت بها إنتكاسة كبرى.
معمل غندور في الشويفات أيضاً إضطر لتقليص خطوط إنتاجيته، وإنما ليس فقط بسبب إصابته بشظايا العدوان الإسرائيلي، بل أيضاً بسبب صعوبة وصول موظفيه الذين نزحوا من أحياء الضاحية.
في بعلبك لحقت الأضرار بمعامل كبيس، حديد، محارم، الومينيوم، أحجار، بعضها مسجل لدى تجمع الصناعيين وبعضها غير مرخص. إلا أن الأبرز كان في التداعيات التي خلفها إقفال بعض المعامل كمعمل لإنتاج الفرش، وهو بحسب حجازي الأكبر الموجود في لبنان، وهذا ما أدى إلى خلل في تأمين الفرشات لمراكز الإيواء. ووفقاً لحجازي فإن المعمل لم يكن يتوقع حجم الطلب، وهذا ما تسبب بثغرة كبرى في بداية الحرب تفاقمت مع إقفاله كلياً. إلا أن الأمر سوي لاحقاً من خلال توفر صناعات متنوعة، أمنت موادها الأولية من الأردن وتركيا، فيما بقي معمل بعلبك خارج الدورة الإنتاجية.
مصانع خارج مناطق الاستهداف
أما في المصانع الواقعة بعيداً عن خطوط النار، يتفق الصناعيون على أن الضرر الأكبر الذي لحق بها، هو جراء عمليات النزوح الواسعة لليد العاملة وموظفي المصانع الذين إضطروا للإبتعاد عن مراكز أعمالهم.
فهل ستبقى هذه المصانع قادرة على تأمين حاجة السوق الداخلية وخصوصاً على صعيد المواد الغذائية والأدوية وغيرها من مواد النظافة الأساسية في هذه المرحلة.
يشير نقولا أبو فيصل رئيس تجمع الصناعيين في البقاع، حيث التجمع الأكبر للصناعات الغذائية ومعاملها الضخمة، إلى أن إنتاجية هذه المعامل مطمئنة حتى الآن. وعليه قد يبدو أثر حرب إسرائيل أقل وطأة على معامل إنتاج المواد الغذائية والأدوية والمنظفات ومواد التعقيم، التي زاد الطلب عليها في الأسواق الداخلية. وهي وإن سارت بين خطوط النار لضمان إستمرارية إنتاجيتها باليد العاملة التي عملت على تأهيلها، تخوض تحد أكبر في تأمين وصول عمالها من المناطق المتضررة، أو تلك التي نزحوا إليها، فيما عينها على ضمان أمن منافذ لبنان الخارجية، أقله لتأمين إستمرار تدفق المواد الأولية، ولا سيما مواد الفيول التي تبقى أساسية لتشغيل المعامل شتاءاً بظل تراجع كميات إنتاج الطاقة المتجددة.
الأمر نفسه ينطبق على صناعات أساسية أخرى كمعامل إنتاج الدواء، والمنظفات والمواد الغذائية الموجودة أيضاً في كسروان، بيروت، جبيل والمتن والتي تعمل وفقاً لبكداش بطاقتها الكاملة و24 ساعة متواصلة لتأمين حاجة السوق. ويؤكد بكداش أنه حتى الآن لا نقص في كميات منتجاتها، لا بل قام بعضها بتأجيل تسليم الطلبات للخارج لتلبية حاجة الداخل أولاً. ولكن هذا لا يجب أن يكون مطمئناً كلياً بحسب بكداش، شارحاً أنه بسبب الأزمة الاقتصادية التي مر بها لبنان، لا يمكن لأي مصنع أن يؤمن فائضاً تموينياً يكفي لأكثر من ثلاثة أشهر، خصوصاً أن التعامل مع الخارج هو بـ”الكاش”، فيما السوق على المستوى الداخلي بدأ يشهد عودة الإستدانة. ومن هنا يتفق بكداش وأبو فيصل على أن الخطر على إستمرارية إنتاجية هذه المصانع يتأتي من مخاطر إقفال سبل الإمداد البحرية والجوية.
تراكم التحديات
في المقابل، ثمة صناعات تضررت إنتاجيتها بشكل كبير جراء الحرب، ويعددها بكداش بأنها كل صناعة لا تؤمن حاجة أساسية للمواطنين الذين تخلوا عن الكثير من حاجاتهم.
بحسب بكداش كلما طالت الحرب تراكمت التحديات، واذا بقينا على هذه الحال شهرين إضافيين قد لا تتمكن بعض المؤسسات من دفع رواتب موظفيها. ويتوقع بكداش إقفال نحو 35 في المئة من هذه المصانع خلال أشهر قليلة، خصوصا أن الحرب تزيد من درجات مخاطر الاستيراد من لبنان. ويشرح ان معظم المصانع التي لا زالت شغالة، تلبي حالياً طلبات تصدير سابقة للحرب، ولكنها لم تتلق طلبات جديدة على منتجاتها، وهذا يؤشر إلى كارثة صناعية كبيرة لا بد أن تلحق ظلما بالطبقة العاملة أيضاً.
يتميز المنتجون اللبنانيون بعناد يجعلهم يخرجون من كل أزمة فرصة. فبينما إستوردت أوروبا الكمامات من الصين خلال جائحة كورونا، نشأت معامل تصنيع منظفات وكمامات محلية في لبنان. فيما شكلت الأزمة الاقتصادية حافزا لتنشيط صناعة الدواء المحلية في لبنان فقلص “الجينيريك” الإعتماد على المستورد. إلا أن المبادرات الفردية وحدها لم تعد كافية بظل حرب جاءت محملة أيضاً بتراكمات أزمات سياسية ومالية، تجعل من التعويل على خطة طوارئ وزارية أو حكومية ضرباً من الرهان على كيانات مفلسة. ولذلك قد يكون الخروج من تداعيات الحرب الأخيرة صعبا وفقا لبكداش، ما لم يتوافق اللبنانيون أقله على مصلحة البلد، فيخرجوا بحلول سياسية مشتركة لا بد أن تنعكس على الواقع الاقتصادي وبالتالي على القطاعات الإنتاجية.