شكوك حول مصير 92% من الدعم دُفعت لـ NGOs | فرنسا: أين ذهبت مساعداتنا للبنان؟

شكّك ديوان المحاسبة الفرنسي في طريقة إنفاق 214 مليون يورو من المساعدات الفرنسية للبنان بين عامَي 2019 و2021، لافتاً إلى أن الغالبية العظمى من هذه المساعدات صبّت لدى المنظمات غير الحكومية التي تقرّر بعد انفجار المرفأ أن تُعتمد بديلاً من المؤسسات الحكومية، بحجّة أن الفساد ينخرها، ليتّضح أن الـ NGOs ليست أقل فساداً. وأشار الديوان في تقرير أصدره أخيراً إلى أن إنفاق المساعدات التي وصلت عبر منظمات مدنية فرنسية، كان من دون توثيق، وإلى أن التقرير هو مسح أوّلي «يجب أن يكون بدايةً لعمليةٍ شاملة في مراقبة المبالغ المالية الحكومية الواردة إلى لبنان» الذي تسلّم بين 2019 و2021 مساعدات مادية وعينيّة بقيمة 3,7 مليارات دولار، تصدّرتها ألمانيا بنسبة 26% من الإنفاق، تليها الولايات المتحدة بـ 20.4%، فمنظمات الاتحاد الأوروبي بـ 11.9%. وشكّك قاضي الغرفة الرابعة، معدّ التقرير، في «طريقة الإنفاق المالي في لبنان تحديداً»، وتخوّف من فساد في توزيع المساعدات التي «تصل إلى فئة معيّنة من المستفيدين من دون الأخرى».

وعلى مستوى عمل الأجهزة الفرنسية، أشار التقرير إلى «غياب الإجراءات الرسمية المعتمدة عن تجميع البيانات الخاصة بتوزيع المساعدات»، كما شكّك في «فعالية الرقابة المالية على مستوى كلّ الأجهزة والوكالات الفرنسية العاملة في لبنان»، واصفاً الرقابة بـ«غير المضمونة». وسعت الغرفة الرابعة إلى «رسم خريطة التدفقات المالية إلى لبنان، وتعداد المشغلين، ووصف تدخل كلّ منهم».

ومنذ عام 2020، تضاعفت المبالغ الفرنسية المخصصة للبنان 2.7 مرّة، أنفقت على عدد من القطاعات اللبنانية، أبرزها التعليم والتدريب بنسبة 45%، و25% على الصحة، و10% على الزراعة، و10% أخرى لإعادة إعمار المنطقة المحيطة بمرفأ بيروت، وصولاً إلى دعم المجتمع المدني الذي نالت جمعياته 21.4 مليون يورو خلال سنتين (10%). كما أن جهات حكومية أمنية فرنسية أنفقت أموالاً في لبنان، خلال الفترة نفسها، إلا أنّ التقرير لم يأتِ على تفاصيلها، مثل «مديرية الدفاع والتعاون الأمني، والسفارة الفرنسية». ووصف التقرير الجهة الأخيرة بأنّها «صاحبة مساهمات متنوعة كونها على اتصال يومي بالسكّان».

القطاعات الفرنسية التي تصدّت في عملية الدعم، تصدّرتها الوكالة الفرنسية للتنمية التي وزعت خلال عامين 111 مليون يورو، 90% منها تبرعات تجاهر الوكالة بأنّها «لم تمرّ عبر القنوات الحكومية»، ودفعت 92% منها للمنظمات غير الحكومية، وتوجهت بشكل رئيسي لـ«دعم المجتمعات المضيفة للاجئين السوريين». وتلتها وكالة التعليم الفرنسية في الخارج التي أنفقت 33.56 مليون يورو، علماً أنّ هذه الوكالة تدير في لبنان شبكة من 63 مؤسّسة تعليمية معتمدة فرنسياً، يتعلّم فيها أكثر من 60 ألف تلميذ، وتزيد أقساطها بشكل سنوي. وشارك مركز الأزمات والدعم في وزارة الخارجية في إنفاق 14.56 مليون يورو بشكل مباشر، و17.7 مليون يورو على شكل تبرعات عينيّة. وموّلت المديرية العامة للخزينة الفرنسية بـ 7.3 ملايين يورو مشاريع في لبنان، من دون تحديد طبيعتها. ودفعت الجهة نفسها 2.1 مليون يورو في مشاريع البنك الدولي في لبنان. وشاركت الدولة الفرنسية أيضاً بمبلغ 32.5 مليون يورو دفع للمنظمات الدولية والفرنكوفونية، عبر وزارة الخارجية التي بدورها «قامت بتوجيه هذه المساعدات عبر قنوات معيّنة».

وربط التقرير بين زيارات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان وزيادة المساعدات الفرنسية، إذ ارتفع مركز فرنسا بين الجهات المانحة للدولة اللبنانية من المرتبة السادسة، خلال الأعوام 2010 – 2019، إلى المرتبة الرابعة، بمبلغ كلّي وصل إلى 292 مليون دولار. وقطع ديوان المحاسبة الفرنسي أيّ أمل في إعادة إطلاق تعهدات مؤتمر سيدر 2018، بسبب عدم التزام لبنان بالإصلاحات التي طلبت منه وقتها. ووصف النظام المصرفي اللبناني بـ«المعطّل، والسائر في الطريق المسدود»، مشيراً إلى «تضاعف نسبة الفقر في المجتمع اللبناني من 42% عام 2019، إلى 82% عام 2021».

المحسوبيات اللبنانية حضرت أيضاً بين سطور التقرير، فاستنتج الكاتب أنّ «من المنطقي هيمنة النهج السياسي على توزيع المساعدات، فلبنان مسألة حسّاسة». وأوصى المدير العام للخزينة الفرنسية بـ«إنشاء نظام مراقبة شامل للمساعدة التي تقدّمها الدولة للبنان». فالمحكمة لم تتمكّن من «التحقّق من امتثال النفقات للقواعد، والأهداف المحدّدة لها، وفعاليتها على الأرض». كما أكّدت الغرفة المسؤولة عن التقرير في ديوان المحاسبة الفرنسي «وجود نقص في الإدارة المالية الشاملة، إذ واجهت صعوبة في جمع البيانات، وجعلها موثوقة». وطالبت بـ«الحصول على الأدوات اللازمة لإحصاء المساعدات الفرنسية، وتحسين توجيهها نحو احتياجات السكان الحقيقية».

مساعدات لمنظمات فرنسية يدفعها اللبنانيون

تحت شعار مساعدة الشعب اللبناني، تساعد الدولة الفرنسية منظماتها غير الحكومية إمّا عبر القروض التي سيسدّدها الشعب اللبناني عنها، أو عبر تبرعات سخيّة ناهزت الـ 120 مليون يورو خلال سنتين فقط. هذه المنظمات تمثل الذراع الطويلة لتنفيذ سياسات الدولة المستعمرة، إذ تصلها 72% من تقديمات الدولة الفرنسية، فيما 90% من المنظمات المستفيدة من فرنسا في لبنان هي إما فرنسية، أو دولية، وأقل من 6% منها لبنانية.

رغم ذلك، «لم يتخلّف لبنان عن سداد ديونه للدولة الفرنسية، وواصل الدفع للوكالة الفرنسيّة للتنمية حتى عام 2022 مع أنّه ابتداءً من 7 آذار 2020 دخل في حالة تخلّف عن بقية الديون»، بحسب التقرير الذي يصف هذا القرار اللبناني بـ«الانتقائي». إلا أنّ فرنسا لم تقابل ذلك بالحسنى، إذ توقفت عن توجيه القروض والمساعدات للجهات الحكومية اللبنانية، واتخذت توجهاً بالتعامل مع المنظمات غير الحكومية فقط، و«حصلت هذه الأخيرة على 90% من مساعدات الوكالة البالغة 111 مليون يورو، أي 99.95 مليون يورو، بين 2020 و2022 من صندوق مينكا المخصص للتخفيف من أثر الأزمة السورية». ولم يستفد الجمهور اللبناني من مشاريع الوكالة التي اقتصر دعمها على معالجة تداعيات الأزمة السوريّة، والمجتمعات اللبنانية المضيفة للنازحين. وتشير الوكالة الفرنسية للتنمية، في أكثر من مقطع في التقرير، إلى «استحالة منح القروض للدولة اللبنانية»، من دون الإشارة إلى أنّ السبب في ذلك يعود إلى ضعف الدولة، مثلاً، وهي «تعيد هذا التوجّه إلى سياسة حكومية فرنسية عامة».

الأمر نفسه ينطبق على تدخل مركز الطوارئ والدعم الفرنسي الذي أنفق 14 مليون يورو خلال 3 سنوات. إلا أن هذه التقديمات لم تصل إلى المجتمع المستهدف عبر الدولة، أو حتى منظمات أهلية محليّة، بل عبر منظمات غير حكومية فرنسية بنسبة تتجاوز 65%، فحصلت هذه المنظمات على أكثر من 9.5 ملايين يورو لإقامة مشاريع لدعم الشعب اللبناني. اللافت أن التقرير الخاص بمركز الطوارئ والدعم يصف الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي كـ«منظمات غير حكومية (!) تحصل على الدعم الحكومي الفرنسي لتنفيذ المشاريع في لبنان»، و«قد نفذ الجيش 10 مشاريع، وقوى الأمن الداخلي 4»، من دون تحديد طبيعتها.

في المقابل، لا تخصّص فرنسا دعماً للمنظّمات غير الحكومية المحلّية، إذ تشير الأرقام إلى اعتماد الوكالة الفرنسية للتنمية في لبنان على منظمات فرنسية بنسبة 57%، و35% دولية، فيما تحصل المنظمات اللبنانية على 6% من الدعم فقط. وبالتالي، تموّل فرنسا مشاريعها في لبنان بأسلوبين، الأول عبر التعاقد مع منظمة غير حكومية، على الأغلب فرنسية، لتنفيذ المشروع بتمويل على شكل قروض، أو ببساطة تقوم وكالة التنمية بإدارة التنفيذ بنفسها.

في المقابل، تشير الوكالة إلى «نجاحات باهرة يحققها المجتمع المدني»، من دون تحديدها أيضاً، رغم أنّها تذكر أنّ مساعداتها، في القطاع الصحي مثلاً، تذهب مباشرةً إلى ثلاثة مستشفيات حكومية، بيروت الجامعي بشكل أساسي، وبدرجة أقل لمستشفيَي الكرنتينا وطرابلس الحكوميين. أمّا المساعدات للقطاع التعليمي من الوكالة، فهي على شكل وجبات طعام توزّع في المدارس.
أذرع الفرنسيين من مناهج التعليم إلى الحدود الشرقية

لم تترك فرنسا مجالاً في لبنان إلا وتدخلت فيه تحت ستار «مساعدة الشعب اللبناني للخروج من أزمته». حتى الجيش وقوى الأمن، ومهامّهما الأمنية الداخلية، كلُّ ذلك لم يسلم من التدخلات. تجاهر الدولة المستعمرة في تقرير ديوان المحاسبة فيها برغبة مديرية التعاون الأمني والدفاعي، في وزارة الخارجية الفرنسية، إحدى أذرع التدخل الخارجي، بـ«فك ارتباط القوى المسلّحة بشكل تدريجي بمهامها الأمنية الداخلية»، ما يشير إلى رسمها لمهام أخرى مطلوب من الجيش والقوى الأمنية تنفيذها غير تلك المحدّدة التي تحددها الحكومة اللبنانية، منها الانتشار على الحدود على الشرقية، وكأنّ السلطات الفرنسية قرّرت استغلال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية للجلوس مكان السلطات التشريعية والتنفيذية في البلاد.

هذا التدخل يغلّف بقفازات «المنظمات غير الحكومية»، المعنيّة بتنفيذ السّياسات الفرنسية في لبنان على كلّ المستويات، الاجتماعية والاقتصادية والتعليميّة وحتى القانونية. فالإدارة الفرنسية تشارك، من دون توضيح الآلية، في كتابة وتعديل قوانين لبنانية، ولا سيّما تلك الخاصة بعمليات البيع والشّراء في الدولة، فتوجه بذلك الاستيراد ليكون من جهة فرنسا بشكل أولي. كما لم يبقَ قطاع الأمن السّيبراني بعيداً عن التدخلات الفرنسية، وهو القطاع الأهم في عالم اليوم، فيرسل لأجله الفرنسيون خبراء لتدريب اللبنانيين على برامج معيّنة خاصة بهم، وبالتالي خلق أبواب خلفية في هذه البرامج للتسلل منها في أيّ وقت نحو «داتا اللبنانيين».

أذرع التدخل الفرنسي كثيرة ومتشابكة، منها ما يتقاطع في وزارة الخارجية، ومنها ما هو «خارج أيّ رقابة» باعتراف التقرير، مثل مديرية الدفاع والأمن. تبدأ التدخلات مع وكالة التنمية الفرنسية AFD، التي تدير مشاريع في شتى مجالات الحياة الاجتماعية والصحية، وحتى القانونية والاقتصادية. من جهتها، تمعن وكالة التعليم الفرنسي في الخارج AEFE بالتدخل، إنّما بصورة أكثر وضوحاً هذه المرّة، فهذه الجهة قادرة على التدخل في المناهج التعليمية لأكثر من 61 ألف تلميذ في لبنان. وهناك مركز الكوارث والدعم، الذي يتدخل تلقائياً في الدول المصابة بالمشكلات، سواء الطبيعية أو الاقتصادية، ولبنان أحد ميادين عمله.

هذا من جهة المراكز المستقلة التابعة للدولة الفرنسية، لكن هناك مديريات في الوزارات تشارك في التدخل، أو التوجيه على الأراضي اللبنانية، مثل المديرية العامة للعولمة، مديرية الخزينة، مديرية التعاون الأمني والدفاعي، ووزارة الثقافة الفرنسية والأجهزة التابعة لها. ويشير التقرير إلى مشاركة الدولة الفرنسية في صناعة سياسات المنظمات الدولية العاملة في لبنان، مثل اليونيسف والبنك الدولي، عبر تقديم الدعم المادي المطلوب لها.

 

عين باريس على الفرنكوفونيّة والمرفأ

لا يقف التدخل الفرنسي عند حدّ، إذ تذهب مديرية الخزينة أبعد من غيرها، وتشير إلى تدخّلها الصريح في «إعادة تشكيل القوانين اللبنانية، ولا سيّما المتعلقة بالجمارك وإدارة المالية العامة». ويذكر التقرير أنّ أهداف هذه المديرية «بناء المؤسّسات»، وبالتالي، فهي تشارك في كتابة مقترحات القوانين الخاصة بـ«إدارة الموانئ، قانون الشراء العام وتعزيز الشفافية في الموازنة العامة». ولتنفيذ ذلك، أنفقت المديرية المذكورة مليونَي يورو، من دون تحديد أبواب الإنفاق. ويظهر التقرير تدخلاً في عمل الجمارك عبر إنفاق نحو مليونَي يورو على «شراء ماسح ضوئي، وتزويد الجمارك ببرنامج خاص، وتدريب العناصر عليه بمساعدة خبير تقني». وظهر الخبراء التقنيون الفرنسيون مرة أخرى داخل الجمارك، على شكل «خبير في إعادة تنظيم مركز تكنولوجيا المعلومات، وخبير في المكننة والرقمنة»، ما يطرح أسئلة كبيرة حول «الأمان، وسيادة لبنان على معلوماته الخاصة بمرافئه البحرية والبرية والجوية».

هنا تدخلت السّفارة الفرنسية مباشرة مرّة أخرى، مع المدارس الرسمية ووضعت «علامة مركز امتياز لتعليم اللغة الفرنسية» لكلّ مدرسة تدخل اللغة الفرنسية على برامجها. كما تمّ توزيع «منح مشروطة بقيمة 50 ألف يورو، كحدّ أقصى، للمدارس المتعثرة»، بحسب توصيف التقرير، والذي لم يذكر عددها، وإنّما أكّد ربطها بالقبول ببرنامج تدريب خاص بالكوادر التعليمية والإدارية في المدرسة. ويشير التقرير أيضاً إلى «استفادة مؤسستَين جامعيتَين من برامج المنح، إذ حصلت جامعة القديس يوسف على 500 ألف يورو عام 2022، والمدرسة العليا للأعمال في بيروت على 300 ألف يورو».

يصف التقرير المدارس اللبنانية الـ 63 التابعة لوكالة التعليم الفرنسي في الخارج بـ«المهد التاريخي». وتستقبل هذه المدارس اليوم 61380 طالباً، وحصلت منذ بداية جائحة كوفيد-19 على مساعدات تقدّر بـ 33.56 مليون يورو، وزعت تحت إشراف السفارة الفرنسية. وتضمّنت المساعدات تقديم معونات مادية غير مباشرة لعائلات لبنانية، عبر دعم الأقساط المدرسية للأولاد، وتدريب الكوادر التعليمية.

 

مصدرجريدة الأخبار - فؤاد بزي
المادة السابقةالاتفاق مع صندوق النقد الدولي ما زال الاولوية
المقالة القادمة«كهرباء لبنان»: زيادة التغذية بدءاً من الأربعاء في بعض المناطق