أثار محمد الحوت الذعر بقراره القاضي بخفض عدد رحلات شركة «ميدل إيست» بنسبة 80%. برّر خطوته بأن الشركة تلقّت إنذاراً من شركة التأمين التي خفّضت التغطية على الطائرات، وبالتالي لم يعد ممكناً استعمال كامل الأسطول. إزاء ذلك، عقد وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام، مؤتمراً صحافياً أمس، للتشكيك في رواية الحوت ووجّه إليه اتهاماً بالاستئثار بالقرار الوطني للنقل الجوي من لبنان، وسط سكوت تام من المعنيين، أي من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري ووزير النقل علي حمية. إثبات صحّة ما قام به الحوت صعب، لأن الشركة لا تمارس أي شفافية في عملها بينما بَسَطَت نفوذها على كامل المطار، ما أتاح لها استعماله من دون إيداع إدارة الطيران المدني نسخة من عقد التأمين الذي يمكن أن يكشف الكثير عن طريقة تلزيم التأمين وعن شروط العقد وقيمته.
تقطيع أوصال لبنان
لم يهضم سلام «القرار الكبير الذي اتّخذته الشركة (ميدل إيست) بأُحادية، من دون أن تعي وقعه، ليس على حركة المسافرين فحسب، وإنّما على البلد ككلّ»، مذكّراً بأنّ شركة طيران الشرق الأوسط هي شركة وطنية «يتألف أسطولها من 24 طائرة، 11 منها ملك مصرف لبنان، أي ملك للدولة». وهي شركة الطيران الوحيدة، أي إنه «لا يمكن التدخل في قرارات الشركات الأجنبية إذا قرّرت قطع خطّ طيرانها مع لبنان مثلاً». في الواقع، من المثير للاستغراب أن يقدّم سلام شكواه علناً في وجه الحوت ومن خلفه في وجه ميقاتي. لا بل إنه استدعى جمعية شركات التأمين وسألها عن مدى صحّة ما يقوله الحوت، وما إذا كانت هذه الشركات قد انخرطت في تقديم خدمة التأمين على طائرات شركة طيران الشرق الأوسط. تبيّن له أن الأمر ليس كذلك. ولفت سلام، إلى أنه كان بالإمكان «القيام بمفاوضات أكثر ربطاً بالظروف الحساسة» مشيراً إلى إمكانية «تعديل بنود العقود مع شركات التأمين حتى تظلّ جميع الطائرات في الخدمة، وأضعف الإيمان ألا تتعطل 80% من حركة الطيران بقرار واحد، بل تتوقّف تدريجياً بنسبة 40% على سبيل المثال».
اللافت، أن سلام أشار إلى أنه كان بإمكان إدارة الرقابة والتفتيش في مديرية الطيران المدني أن تقول «كلا» لشركات التأمين، وأن تبحث شركة طيران الشرق الأوسط عن أفضل شروط استمرار هذا المرفق الأساسي، لكنّ إدارة الرقابة لا تعرف شيئاً عن عقود «ميدل إيست» مع شركات التأمين العالمية، بحسب سلام نفسه. وهو ما أكّده المدير العام للطيران المدني بالإنابة فادي الحسن، إذ قال لـ«الأخبار»: «ما يهمّ المديرية هو أن تكون بوليصة التأمين على الطائرات صالحة في الملف الفني الذي تقدّمه شركات الطيران قبل تسيير الرحلات في مطار بيروت من لبنان وإليه، ولا نتدخّل في مستوى المخاطر على البوالص».
ودقّ سلام ناقوس الخطر محذّراً من نتائج قطع أوصال لبنان الجوية مع الخارج على الأمن الغذائي تحديداً لجهة عرقلة وصول المواد الغذائية إذا اندلعت الحرب. ذلك أنه «برّاً، لم تعد التجارة على الحدود مع سوريا كما كانت عليه في الحرب السابقة عام 2006، وإذا فرض العدو حصاراً بحرياً على لبنان، هل نغلق المتنفّس الحيوي لحركة الصادرات والواردات جواً»؟
الأولوية «ليست للجميع»
إذاً، قرّر الحوت حصار لبنان بشكل مبكر قبل اندلاع مواجهة شاملة مع العدو، وقبل أن تؤدّي المخاطر العسكرية إلى منع استعمال مطار بيروت. هذا الأمر لم يحصل في عزّ الحرب الأهلية عندما قُصفت طائرات في مطار بيروت. يومها، بحسب رواية أحد المسؤولين، فقد جرت مفاوضات مع شركات التأمين التي كانت تؤمّن على طائرات ميدل إيست، واتُّفق معها على أن تخفض التغطية التأمينية وإبقاء كل الأسطول عاملاً ضمن معادلة إبقاء أربع أو خمس طائرات في المطار في وقت واحد. وبالتالي كانت غالبية طائرات الأسطول تعمل إنما عدد الطائرات الموجودة في مطار بيروت لم يكن يزيد على أربع أو خمس طائرات في الوقت نفسه. وضمن الاتفاق أيضاً أنه يتم إخلاء الطائرات الموجودة في مطار بيروت خلال ساعتين.
خلافاً لكل ذلك، قرّر الحوت أن يعرض خطواته في مهرجان مثير للذعر. ورغم أن الحوت قال لحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري إن خطواته ستخفّض عدد الطائرات لكنها تغطّي 80% من الطلب على السفر، إلا أن ما قاله في المؤتمر الصحافي لا يتطابق مع كلامه لمنصوري، بل قال: «أولويتنا ألا نؤمّن كل العالم…»، وهذا يتطابق مع قوله بأن الشركة ستعيد ثمن بعض تذاكر السفر المحجوزة مسبقاً، وستركّز على رحلات من بلدان محدّدة. فلو كان كلام الحوت لمنصوري عن تأمين 80% من الطلب المحلّي على السفر، لما تطلّب الأمر إعلان خفض عدد الرحلات في مؤتمر صحافي، بل كان بالإمكان جدولة بعض المقاعد بطريقة سلسلة وبلا إثارة للذعر.
لكنّ الحوت الذي يستند إلى دعم من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، يواجه أسئلة عن شفافية الشركة وعن نفقاتها المتصلة بشراء الطائرات وبيعها. فهو يملك فعلياً 11 طائرة من أصل 24 طائرة. لديه عدد من الطائرات المستأجرة، وطائرات مرهونة بقيمة أقساطها. كلّ الطائرات المستأجرة، والطائرات المرهونة هي جديدة، وباقي الطائرات هي قديمة، لكنّ الحوت أراد إيهامنا طوال الوقت بأن الميدل إيست تملك أسطولاً كبيراً وجديداً، لكنها بالفعل لا تملك السيادة على أسطولها، والقسم الأكبر من هذا القرار خضع لقرارات شركات أجنبية فرضت على الميدل إيست اتخاذ هذا القرار.
كذلك، تقول المصادر إن التأمين يغطّي الطائرات بقيمتها المخمّنة بنحو 750 مليون دولار، وإن شركات التأمين خفّضت قيمتها وبالتالي قيمة التأمين إلى نحو 150 مليون دولار. لكنّ الحوت أبلغ المعنيين بأنه أبقى 8 طائرات تُقدّر قيمتها بنحو 200 مليون دولار. بمعزل عن النقاش في السعر الوسطي للطائرة المبالغ فيه جداً، فإن الطائرات التي تملكها الميدل إيست بشكل كامل وحرّ هي قديمة ومتهالكة نسبياً، وبالتالي فإن تخمين الطائرات التي بقيت تعمل بنحو 200 مليون دولار فيه الكثير من المبالغة. ما يتبيّن، هو أن الشركات الأجنبية التي تملك طائرات الميدل إيست، أو الشركات الأجنبية التي لديها حقوق على طائرات الميدل إيست، فرضت قرارها على الشركة الوطنية التي تتمتّع بحصرية العمل انطلاقاً من مطار بيروت الدولي. في هذه اللحظة تبدّدت الأوهام التي روّجتها الميد إيست بأنها تملك أسطولاً من الطائرات الحديثة، فهي لا تملك طائراتها ولا قرارها، بل كان المؤتمر الصحافي مجرّد أداة وسيطة لإبلاغ لبنان القرار الغربي ببدء الحصار، حصار ما قبل الحرب.