بعد 14 شهراً من الإنهيار الاقتصادي في لبنان، ما زلنا في المربع الأول في ما يتعلق بالتعامل مع أزماتنا متعددة الأبعاد. بحلول نهاية تشرين الأول 2019، اتضحت أخيراً أزمات لبنان المتعددة لمعظم المواطنين. المصارف أغلقت أبوابها بعدما لامست سيولتها الخارجية بالعملة الأجنبية الصفر. فتوقف تدفق الدولار إلى القطاع المصرفي، وأصبح تقنين السحوبات بالدولار أمراً واقعاً. العملة الوطنية واصلت انخفاضها ابتداء من ذاك الصيف. وتوقف التمويل الحكومي بالدولار قبل أشهر. واستمرت أسعار السندات الدولية “يوروبوندز” في الانهيار إلى مستويات التعثر.
لبنان ليس البلد الأول الذي يواجه أزمة اقتصادية ولن يكون الأخير، لكنه ربما يكون البلد الأول في التاريخ المالي الحديث الذي فشل فيه صانعو السياسات في تطبيق المتطلبات البديهية للتعامل مع الأزمات. وذلك على الرغم من كل المؤهلات البشرية والفرص التي كانت معروضة علينا على طبق من فضة. فبدلاً من استثمارها في الإصلاحات واتخاذ الإجراءات الأساسية اللازمة لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، وبدء الانتعاش، وإنقاذ لبنان واللبنانيين، فقد فوت السياسيون الفرصة مرة جديدة بسبب فشلهم وعدم كفاءتهم.
وللتذكير، فقد منعوا على مدار الـ 14 شهراً الماضية الإجراءات الأساسية التالية التي كان من الواجب اتخاذها:
– لم يطبقوا قانون تقييد الرساميل “كابيتال كونترول” في تشرين الأول من العام 2019.
– بقيت خطة التعافي الاقتصادي التي أقرتها الحكومة في أيار 2020 حبراً على ورق.
– تفشيل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وعدم القيام بأي إصلاح في حزيران 2020.
– إهمال المبادرة الفرنسية وعدم تطبيق أي بند من بنودها في تشرين الأول 2020.
– إحباط التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، وانسحاب الشركة المدققة “ألفاريز آند مارسال” في تشرين الثاني 2020.
مما سبب ويسبب:
– إنهيار الليرة اللبنانية وخسارتها أكثر من 80 في المئة من قيمتها.
– التضخم المفرط.
-إقتطاع فعلي من الودائع Haircut بنسبة تراوحت بين 50 إلى 77 في المئة على جميع المودعين.
-إستراتيجية الـ “ليلرة” للودائع بالعملة الأجنبية أو ما يعني تحويل الودائع بالدولار إلى الليرة اللبنانية.
– إنهيار الناتج المحلي.
– إرتفاع معدلات الفقر إلى نحو 60 في المئة.
– تراجع ثقة المواطنين وفقدان الأمل.
– الهجرة الجماعية.
يتضح مما تقدم ان الجهود لتحقيق الإستقرار والإنتعاش يجب ان تبدأ وتنتهي بإصلاحات مقترنة ببرنامج مع صندوق النقد الدولي. حيث يلعب “الصندوق” دوراً محورياً في سد احتياجات النقد الأجنبي، إلى أن تتم إعادة ضبط “عقارب” الاقتصاد من خلال القيام بالإصلاحات الاقتصادية والمالية والنقدية المطلوبة على النحو المتفق عليه في “خطة التعافي”. ففي الوقت الذي يجب أن يُنظر فيه إلى البرنامج مع “الصندوق” على أنه جسر للإصلاح، يبقى الحل النهائي في أيدي صانعي السياسة المحليين. إذ من الضروري إقرار خطة الانقاذ والنهوض الاقتصادى من دون تحويرها أو العمل على تفشيلها وإحباطها.. كما حدث في أيار العام 2020 من قبل اللجنة البرلمانية، البنوك، والمصرف. وأيضاً لم تلاق الخطة المُقرة الدعم الكافي والمناسب من وزارة المالية والحكومة.
على عكس كل محاولات التضليل التي يحاولون تسويقها، فان توقف الإتفاق مع صندوق النقد الدولي وتأجيل الاصلاحات لا يعودان إلى غياب الحكومة فقط. فحاكم المصرف المركزي رياض سلامة يشغل كرسي لبنان في صندوق النقد الدولي، مما يجعله نظرياً نقطة الاتصال الأساسية مع “الصندوق”. ويمكن “للمركزي”، كمؤسسة تضم أكثر من 2000 موظف مع العديد من المهنيين ذوي الخبرة، تحديث الخطة الاقتصادية المطلوبة بسهولة بالتنسيق والاتفاق مع موظفي وزارة المالية. حيث ان المالية والمركزي كيانان أساسيان يتوجب عليهما مباشرة العمل على تفعيل المفاوضات والتوصل إلى اتفاق مع “الصندوق” في القضية الأكثر إلحاحاً بالنسبة للبنان: خطة إنعاش اقتصادي…تلخص آمالنا.
يتمثل الحل في تشكيل لجنة مهنية من كبار الموظفين ذوي الخبرة في مصرف لبنان مع وزارة المالية، بأسرع ما يمكن؛ تتجاوز الأحزاب والسلطة السياسية ذات المسؤولية والصلاحيات القانونية لأداء المهام التالية:
– إعداد وتحديث خطة الإنعاش الاقتصادي.
– إعادة بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وأخذ موافقة مبدئية من فريق عمل “الصندوق” على الخطة وانتظار الموافقة النهائية من مجلس إدارته فور مصادقة الحكومة اللبنانية العتيدة عليها.
– مناقشة الخطة مع مختلف القوى السياسية والمشرّعين في المجلس النيابي من أجل وضع وإقرار القوانين المطلوبة لتنفيذ بنودها الإصلاحية.
تعيين مثل هذه اللجنة واعطاؤها الصلاحيات المطلوبة للعمل، يمكّن الحكومة فور تشكيلها من البدء بسرعة وفعالية في وضع الخطة موضع التنفيذ. وفي حال التأخر في تشكيل الحكومة الجديدة فمن الممكن إعطاء المجلس النيابي حكومة تصريف الأعمال الصلاحيات القانونية اللازمة لتنفيذ مقررات اللجنة. وفي جميع الحالات يجب ان تبقى اللجنة كهيئة مهنية مسؤولة عن الإشراف على خطة الإصلاح وتنفيذها بغض النظر عن الحكومة التي تتولى السلطة حتى يتم تنفيذ جميع الإصلاحات على مدى 3 إلى 5 سنوات. إن مثل هذه اللجنة ضرورية للتعافي الاقتصادي في لبنان، وربما ينبغي أن تكون أهم هيئة لضمان الاستقرار الإقتصادي على مدى السنوات المقبلة.
معاناة اللبنانيين التي وصلت إلى حدّها مع استمرار الأزمة الإقتصادية وإنفجار مرفأ بيروت لم تعد تحتمل إنتظار “غودو” السياسيين. لقد خذلنا صانعو السياسة مرة أخرى، وحان الوقت لهم للتقاعد والسماح لفريق من ذوي الخبرة في إدارة الأزمات المتعددة بإخراجنا من “أرض الزومبي”. وإلا نبقى كشخصيات “صموئيل بيكيت” في مسرحية في انتظار “غودو”. كائنات معدمة، مهمّشة، ومنعزلة تنتظر شخصاً يدعى (غودو) ليغيّر حياتهم نحو الأفضل.. لكن لا “غودو” يأتي وحياتهم تتغير نحو الأسوأ.