انتهت مغامرة توسعة المطار، وتلزيم إنشاء واستثمار مبنى جديد للمسافرين، بإلغاء العقد طوعًا من قبل وزير الأشغال العامّة علي حميّة. في الشكل، أراد حميّة إعطاء قراره صفة الشجاعة، من خلال “عدم السير بالعقد واعتباره كأنّه غير موجود”، بسبب “الجدال القانوني الحاصل في البلاد”، و”حسمًا للاختلاف الحاصل في وجهات النظر”. وخطوة التراجع الطوعي عن العقد، تتّسق في المشهد العام مع انكشاف كتلة ضخمة من المخالفات القانونيّة، التي انطوت عليها طريقة تلزيم المشروع، ما يضع التراجع عن المشروع في إطار فضيلة الاعتراف بالخطأ، ولو لم ينطق الوزير صراحة بهذا الاعتراف.
لكن أبعد من كل هذا المشهد، ينقل العارفون بمجريات الأمور تفاصيل أكثر إثارة للاهتمام، وتحديدًا لجهة الدور الفرنسي في إثارة الحملة على المشروع، المليء أساسًا بالمخالفات الكفيلة بتأجيج الرأي العام ضدّه. فالصفقة نفسها، وضعت مشروع توسعة المطار في المحفظة الاستثماريّة السعوديّة، في حين أنّ باريس راهنت على ضمّه إلى محفظة استثمارات المرافق العامّة التي استحوذت أو ترغب بالاستحواذ عليها. وهذا ما يضع المشروع، والسجال الذي أفضى إلى إلغائه، في إطار السباق الفرنسي السعودي على استثمار المرافق العامّة اللبنانيّة.
التهريبة والمخالفات الفاقعة
المشروع نفسه، بكل تفاصيله، لا يمكن وضعه إلا في إطار التهريبة غير القانونيّة وغير الدستوريّة، وهذا ما وفّر أرضيّة خصبة للحملة التي أطاحت به. في بادئ الأمر، تذاكى حميّة بتسويقه المشروع كصفقة لا تحمّل الدولة أي كلفة، بل تعطيها عوائد كحصّة من إيرادات رسوم المبنى الجديد، الذي ستتحمّل كلفة تشييده الشركات المشغّلة. وهذا تحديدًا ما يقوم عليه أي مشروع وفق مبدأ الـBOT، الذي يعطي شركات خاصّة امتيازاً احتكارياً لتشغيل مرفق عام، لفترة معيّنة، مقابل إعطاء الدولة رسوم محددة من حاصلات تشغيل المرفق.
لكن هذا المبدأ، ورغم عدم انطوائه على أي كلفة مباشرة على المال العام، لا ينفي أهميّة دفاتر الشروط والمزايدات الشفّافة. بل وعلى العكس تمامًا: من يضمن، بغياب المزايدة، أن الدولة حققت أفضل شروط أو أفضل عائد لها من هذا الاستثمار؟ من يضمن أن شركة أخرى لم تكن راغبة بعرض عائد أو نسبة أرباح أكبر للدولة؟ أو من يضمن أنّ شركة أخرى لم تكن راغبة بفرض رسوم أقل على اللبنانيين، مقابل استثمار هذا المرفق؟
ثم تبدأ هنا لائحة الأسئلة المرتبطة بالمشروع: أين هو العقد الذي ستمتد مفاعليه لأكثر من 25 سنة؟ وكيف تم احتساب حصّة الدولة، من رسوم ستبلغ قيمتها مليارات الدولارات؟ كم سيسدد اللبنانيون لقاء استعمال هذا المرفق؟ ولماذا لم يقم حميّة بأي استدراج علني للعروض، وحسب دفتر شروط معلن؟ وأين المزايدة؟ لماذا تمّ تهريب الصفقة بالسر، وبالتراضي، ومن دون إطلاع هيئة الشراء العام كما ينص قانون الشراء العام الذي تم إقراره العام الماضي؟
يستنجد الوزير بقانون رسوم المطارات، والذي يفترض أن يرعى عمليّة تأجير مساحات المطار لصالح شركات النقل الجوّي، وهو قانون تجاوز عمره 76 عامًا. وهذه الحجّة الهزيلة، تتجاهل فكرة أنّ المشروع لم يكن مجرّد تأجير بسيط لمساحة محدودة الحجم داخل المطار، كما أوحى الوزير. بل هو استثمار ضخم، وبعقد احتكاري، لمبنى سيستوعب 3.5 مليون مسافر سنويًا. بل هو في واقع الأمر، أحد أضخم المشاريع التي وضِع لأجلها قانون الشراء العام، وأُنشأت لأجلها هيئة الشراء العام، لضمان نزاهة وشفافيّة عمليّات التلزيم.
وفي كل هذا المسار، لم يتجاهل الوزير قانون الشراء العام وحسب، بل تجاهل قبل كل شيء المادّة 89 من الدستور اللبناني، التي تمنع منح أي امتياز أو إلتزام لاستغلال المرافق العامّة أو ثروة البلاد الطبيعيّة، إلا بموجب تشريع صريح من المجلس النيابي، وبما يمهّد لإجراء المناقصات أو المزايدات وفق قانون الشراء العام. كما تجاهل حميّة حقيقة أنّه وزير في حكومة تصريف أعمال، ما يفترض أن يمنع الحكومة مجتمعة، لا الوزير فقط، من عقد أي صفقات ترتّب إلتزامات ماليّة على الدولة أو مرافقها العامّة.
الدور السعودي والعرقلة الفرنسيّة
تنكشف تدريجيًا، بعد أن يعلو صوت الاعتراضات، قائمة المستفيدين من الصفقة. على الهامش، ثمّة شركة إيرلنديّة تُدعى DAAI ، تملك باعًا طويلًا في الصفقات الملتبسة المرتبطة بمرافق مطار بيروت. الشركة الإيرلنديّة دخلت في شراكة مع شركة محليّة تُدعى LAT Co، للحصول على هذا الامتياز. و LAT Coمملوكة بدورها من السعودي مقرن بن عبد العزيز، الذي وكّل أمر إدارتها لبنانيًا لعلي مهنّا، المقرّب من نبيه برّي.
ربّما راهن الوزير علي حميّة على تمرير الصفقة من دون الكثير من الضجيج، تمامًا كما حصل مؤخّرًا في عدّة صفقات أخرى مشابهة خلال السنتين الماضيتين. وربما راهن على صمت معارضيه، من أصدقاء المملكة العربيّة السعوديّة، نظرًا لانخراط مقرن بن عبد العزيز في التلزيم.
لكنّ القضيّة انفجرت إعلاميًّا وسياسيًا، وانفجرت معها اتصالات السفارة الفرنسيّة بالتحديد، وباتجاه كل الأطراف ذات الصلة: هيئة الشراء العام وديوان المحاسبة ووزارة الأشغال ورئاسة الحكومة وإعلاميين وغيرهم. ثم ضغطت رئاسة الحكومة باتجاه فرملة الصفقة، وإحالتها إلى ديوان المحاسبة. عند هذه النقطة، أدرك حميّة ضخامة الدوامة التي دخل فيها ملف توسعة المطار، فصدر القرار “الشجاع” (؟) بوقف التلزيم.
لا يحتاج الأمر لكثير من التحليل لنفهم الزاوية التي ينظر منها الفرنسيون: بعد الاستحواذ على عقود تشغيل محطات الحاويات في مرفأي بيروت وطرابلس، ومن ثم قطاع البريد، ومع تحضيرهم لدخول عقود استثماريّة لتشغيل مرافق عامّة أخرى كالكهرباء والسجل العقاري والنافعة (راجع المدن)، ومع ترصّدهم فرصة شراء حصّة في شركة طيران الشرق الأوسط، لم يكن مطار بيروت بعيدًا عن طموحاتهم. استثمار المبنى الجديد، يفترض أن يكون من حصّة الشركات الفرنسيّة، وهذا ما يفسّر النقمة الفرنسيّة على الصفقة، وتدخّل السفارة الفرنسيّة على خط تأجيج الاعتراضات ضد المشروع.
في خلاصة الأمر، ثمّة حرب باردة بدأت على فتات الإدارات والمرافق العامّة اللبنانيّة. في حالة الانهيار، تُصبح كل هذه الأصول لقمة سائغة يمكن بيعها بالثمن البخس، وبعقود احتكاريّة تفتح أبواب الربح السهل والسريع. وبغياب القيادة السياسيّة، يصبح من السهل مواءمة الصفقات السياسيّة مع هذا النوع من الصفقات الماليّة، تمامًا كما يجري في باريس الآن.