في خطابه أمام البرلمان اللبناني، ولتبرير محدوديّة الاعتمادات المرصودة للإدارات العامّة، أشار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في منتصف أيلول الماضي إلى أنّ حجم الموازنة العامّة تقلّص اليوم إلى نحو مليار دولار فقط، بعدما كان يوازي قبل الأزمة حدود 17 مليار دولار.
وفي تلك الجلسة الشهيرة نفسها، لم يسمح رئيس المجلس النيابي لوزير الماليّة يوسف الخليل أن يتابع حديثه أمام المجلس النيابي، لتحديد الخطوات التي يقترحها لمعالجة هذا الضمور في حجم الموازنة العامّة، وتحديدًا في ما يخص أصول جباية الوردات واحتساب الضريبة.
بازار أسعار الصرف المتعددة
يومها، أراد وزير الماليّة الضغط باتجاه اعتماد سعر صرف موحّد لاحتساب الرسوم الجمركيّة والضريبة على القيمة المضافة، كسعر المنصّة مثلًا، بدل اعتماد أسعار صرف منخفضة ومتفاوتة، تفوّت على الدولة عائدات ضريبيّة كبيرة. مع الإشارة إلى أنّ التجّار يحصّلون أساسًا الرسوم بالدولار الطازج أو ما يوازيه من السوق، كنسبة من أسعار السلع المستوردة، ما يعني أنّ المستهلك لا يستفيد حاليًّا من الانخفاض في قيمة الرسوم التي يسددها المستوردون والتجّار للدولة، بسبب اعتماد سعر صرف مخفّض لسداد الضريبة.
ومع ذلك، لم يُترك المجال للوزير لمناقشة هذه الفكرة، في الوقت الذي كانت تضغط فيه الهيئات الاقتصاديّة لتقليص سعر الصرف المعمول به لاستيفاء رسوم الجمرك والضريبة على القيمة المضافة. وفي النتيجة، تحوّل هذا النقاش إلى بازار هزلي بين الحكومة والمجلس، بما أفضى إلى اعتماد سعر صرف لا تتجاوز نسبته 30% من قيمة الدولار الفعليّة في السوق.
صندوق النقد يبيّن الخسارة: 5.6% من الناتج المحلّي
مؤخّرًا، صدر تقرير عن صندوق النقد الدولي، لتبيان الثغرات الموجودة في السياسات الضريبيّة المعتمدة حاليًّا في لبنان، ومنها مسألة تعدد أسعار الصرف، واعتماد سعر صرف غير واقعي لتحصيل الرسوم من التجّار.
وفي النتيجة، تبيّن للصندوق أن الخزينة فوّتت على نفسها ما نسبته 5.6% من الناتج المحلّي الإجمالي عام 2022، من الرسوم والضرائب التي كان من المفترض أن تستفيد منها، نتيجة اعتماد أسعار صرف منخفضة لتحصيل الرسوم الجمركيّة والضريبة على القيمة المضافة. وبهذا، يمكن القول أن الدولة اللبنانيّة كانت قادرة على مضاعفة حجم وارداتها، وبالتالي مضاعفة حجم الميزانيّة العامّة، التي شكا ميقاتي من محدوديّتها، لو تم اعتماد سياسة منظّمة ومدروسة لتوحيد أسعار الصرف، بما فيها أسعار صرف جباية الرسوم من المؤسسات التجاريّة.
في الوقت نفسه، وبما أن لبنان لم يشرع حتّى اللحظة بتطبيق خطّة من هذا النوع، يتوقّع صندوق النقد استمرار الخسارة التي تتكبّدها الميزانيّة العامّة من وارداتها، لتقارب حدود 4.3% في العام 2023. مع الإشارة إلى تقلّص نسبة الخسارة من الناتج المحلّي يعود إلى زيادة سعر الصرف المعتمد لتحصيل الواردات، كجزء من إجراءات الميزانيّة العامّة للعام 2022. وفي جميع الحالات، من المتوقّع أن ترتفع نسبة هذه الخسارة من الناتج المحلّي، في حال ارتفاع سعر صرف السوق الموازية بشكل إضافي، وتوسّع الفارق بينه وبين سعر الصرف المعتمد لتحصيل الواردات.
المطلوب توحيد أسعار الصرف فورًا
لمعالجة هذا الخلل، حدد تقرير صندوق النقد الدولي الإجراءات المطلوبة فورًا، والتي تبدأ أولًا باعتماد سعر صرف موحّد لجميع عمليّات استيفاء الضريبة، التي تقوم بها وزارة الماليّة. وهذا السعر، يمكن أن يكون سعر منصّة صيرفة، باعتبارها المنصّة التي يراهن مصرف لبنان على اعتمادها كسعر صرف عائم وموحّد لليرة اللبنانيّة في المستقبل. كما أوصى صندوق النقد بإعادة تحديد الهامش الذي يفترض أن تصرّح بعده المؤسسات لإدارة الضريبة على القيمة المضافة، عند حدود 75,000$، بعدما بات الهامش الحالي هامشًا لا يتسم بالواقعيّة، بالنظر إلى انخفاض قيمة العملة المحليّة.
وبالإضافة إلى كل ذلك، أوصى صندوق النقد في تقريره بإجراءات فوريّة أخرى، من قبيل إعادة تصحيح قيمة رسوم الاستهلاك وتحديدها عند قيمتها الحقيقيّة قبل الأزمة، بالإضافة إلى اعتماد نظام يربط قيمة هذه الرسوم بمؤشّر يأخذ بالاعتبار نسبة التضخّم والانخفاض في قيمة العملة المحليّة.
كما أوصى الصندوق بالبدء بتلقي المعلومات المرتبطة بحسابات اللبنانيين في الخارج، من خلال معاهدة التبادل التلقائي للمعلومات الضريبيّة، التي يصرّح من خلالها لبنان للسلطات الضريبيّة الأجنبيّة عن حسابات المقيمين لديها في لبنان. كما طلب إلغاء إعفاء توزيعات الأرباح للأفراد من الشركات القابضة وشركات الأوفشور، من ضريبة الاقتطاع من المنبع. وجميع هذه الإجراءات، تسمح بتقليص الهامش الذي استفادت منه الفئات الأكثر اقتدارًا من المجتمع، للتملّص من تسديد واجبتها الضريبيّة.
أمّا بالنسبة للرسوم العقاريّة، فأوصى صندوق النقد بإلغاء الإعفاء التلقائي من الضريبة العقاريّة، الممنوح للعقارات الشاغرة، والمعاملة الضريبيّة التفضيليّة الممنوحة للعقار الثاني. كما طلب الصندوق توسيع نطاق رسوم التسجيل، ليشمل تحويلات الأسهم التي تطال أكثر من 50% من قيمة العقار.
وعلى المدى المتوسّط، أوصى الصندوق بإنهاء نظام رد الضريبة على القيمة المضافة للسيّاح الزائرين، المعتمد منذ عقود. كما أوصى بإلغاء نظام شركات الأوف شور والشركات القابضة بشكل تام، مع السماح لأصحاب هذه الشركات بإغلاق الشركات من دون ضرائب إضافيّة. مع الإشارة إلى أن هذه النوع من الشركات لطالما مثّل بابًا من أبواب تهرّب الشركات الكبرى من سداد الضريبة، عبر تحويل عمليّاتها إلى هذه الشركات المعفاة من الضرائب على الأرباح. كما أوصى الصندوق باعتماد نظام جديد شفاف ومرن لتقييم العقارات، بما يسمح باعتماد تقييم موحّد بالنسبة لجميع مؤسسات الدولة اللبنانيّة.
توصيات أخرى على المديين المتوسّط والبعيد
أّمّا لإكمال هذه الإجراءات على المديين المتوسّط والبعيد، فقد أوصى تقرير الصندوق باعتماد هذه السياسات الضريبيّة بشكل متدرّج:
– فرض ضريبة أشمل على الممتلكات العقاريّة غير المنقولة، بما في ذلك العقارات السكنيّة الجديدة.
– تشديد الإعفاءات الممنوحة حاليًّا على السياسة والتعليم.
– فرض ضريبة أشمل على الخدمات الماليّة.
– إخضاع دخل الأفراد من الإيجارات لضريبة الدخل.
– استحداث نظام مبسّط لمؤسسات الأعمال التي يقل حجم أعمالها عن حد التكليف بالضريبة على القيمة المضافة.
– توحيد جداول المعدلات الضريبيّة على الأجور وأنشطة الأعمال للأفراد.
– البدء بنشر تقارير النفقات الضريبيّة بانتظام.
جميع هذه الإجراءات، تندرج ضمن إطار السياسات التي يمكن أن تتبعها الدولة اللبنانيّة، لتحسين كفاءة النظام الضريبي وعدالته. وهذه الإجراءات ستسمح للدولة في المستقبل بتمويل إلتزاماتها على مستوى شبكات الحماية الاجتماعيّة، في مقابل إعادة توزيع ثقل الواجبات الضريبيّة، بما يخفف الأعباء عن الفئات الأكثر هشاشة.
إلا أن سياسات التصحيح الضريبي يفترض دائمًا أن تندرج من ضمن سلّة أوسع من الإجراءات الماليّة الاستراتيجيّة، التي تصب في صالح رؤية اقتصاديّة متكاملة، وهذا الجانب من الخطط الرسميّة مازال غائبًا عن المشهد حتّى اللحظة. ولهذا السبب، ما زالت جميع النقاشات المرتبطة بالسياسة الضريبيّة تصب في إطار الشعبويّة والمناكفات السياسيّة، وتقاذف المسؤوليّات بين السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة، وهو ما حصل في المناقشات المرتبط بسعر صرف موازنة العام 2022.