لم تنجز الحكومة حتّى اللحظة خطة التعافي الماليّة المتكاملة، التي يفترض أن يتم على أساسها التفاوض مع صندوق النقد، في الجلسات الرسميّة التي سيتم عقدها خلال الشهر المقبل، والتي سيتم تخصيص كلّ منها لمناقشة جانب معيّن من الخطّة. ورغم ذلك، أنجز فريق العمل المكلّف بالتحضير للمفاوضات تصوراته لأهداف التفاوض مع صندوق النقد، أي نوعيّة التفاهم الذي يريد أن يصل إليه مع الصندوق لاحقاً، بخصوص برنامج القرض وطريقة منحه. وهذه الأهداف، يبدو أنّها تندرج في إطار التذاكي الماكر، من خلال جدولة الإصلاحات زمنيّاً، على نحو تمرّر الحكومة قبل الانتخابات ما يمكن أن تتحمّله الطبقة السياسيّة من شروط الصندوق الإصلاحيّة الخفيفة، فيما تبقي على الشق الأصعب والأشق من الإصلاحات إلى الحكومة المقبلة بعد الانتخابات. وبالتوازي مع جدولة الإصلاحات، ستسعى الحكومة إلى جدولة الدفعات التي ستحصل عليها من قرض الصندوق، عبر الحصول على دفعة من المبلغ قبل الانتخابات، على أن تترك الحصول على باقي القرض إلى ما بعد الانتخابات، بالتزامن مع تطبيق الجزء الثاني من الاصلاحات.
هذا المكر والتذاكي في العمل مع الصندوق، سيكون هدفه الحصول على بعض السيولة خلال الأشهر القليلة المقبلة قبل الانتخابات، من دون أن تقدّم السلطة تنازلات كبيرة للصندوق، ومن دون أن تجري إصلاحات جديّة وازنة. والهدف حكماً تعويم السلطة انتخابيّاً بهذه الأموال، التي ستُضاف إلى أموال حقوق السحب الخاصّة. وعلى قاعدة “اليوم خمر وغداً أمر”، سيترك أمر الإصلاحات الهيكليّة الجديّة للمدى المتوسّط والطويل من الخطّة الماليّة.
لكن في المقابل، يبدو أن وفد الصندوق استشعر باكراً هذه النوايا من خلال الاجتماعات التحضيريّة مع الوفد اللبناني، وهو ما دفعه إلى التقدم باتجاه تصورات مختلفة للتفاهم مع الدولة اللبنانيّة، بما يفرض مسارات تصحيحيّة منذ البداية يصعب التملّص منها على المدى المتوسّط. كما يبدو أن ثمّة عوامل أخرى ستعيق التحايل على صندوق النقد على النحو الذي تخطط له الحكومة، وخصوصاً من جهة الوقت المتبقي لإنجاز التفاهم قبل الانتخابات.
ستحاول الحكومة أن تبيع الصندوق بعض القرارات السريعة وغير المؤلمة، من قبيل تمرير قانون الكابيتال كونترول، وتنسيق شبكات الحماية الاجتماعيّة، بالإضافة إلى مكافحة التهريب. أما الجزء الذي يؤلم المصارف، والمتعلّق بتحديد الخسائر ومعالجتها، فسيُترك للمدى المتوسّط أو الطويل من الخطة، من دون وجود ما يضمن تنفيذه. مع الإشارة إلى أن المصارف تناغمت بشكل كبير مع مناورة الحكومة هذه، من خلال خطتها التي سعت إلى جدولة الإصلاحات زمنيّاً بالطريقة الماكرة نفسها.
في النقاشات الأوليّة التي جرت بين وفد الحكومة ووفد الصندوق، بدا واضحاً أن الصندوق تأهّب منذ البداية للحؤول دون التذاكي عليه في أي خطّة يتم التفاهم عليها مع لبنان. فعلى سبيل المثال، الكابيتال كونترول الذي يريده الصندوق، مختلف عن ذلك التي تحاول السلطة بيعه في إطار “الإصلاحات التمهيديّة”، والذي يقتصر على تشريع الضوابط المفروض على السيولة حاليّاً في النظام المصرفي. بالنسبة إلى الصندوق، لا معنى للكابيتال كونترول إذا لم يؤسس لتنظيم عمليات القطع وشراء الدولار داخل النظام المصرفي، بهدف توحيد أسعار الصرف لاحقاً، وبالتوازي مع تحديد الخسائر المصرفيّة ومعالجتها، لتمكين المصارف من استقطاب الدولارات من جديد وضبط سعر الصرف العائم والموحّد.
باختصار، لا يعتبر الصندوق الكابيتال كونترول مجرّد إقرار لقانون يشرّع ما هو موجود من أزمات بين المودعين والمصارف، كما يحاول أن يفعل المجلس النيابي اللبناني اليوم. بل وعلى العكس تماماً، الكابيتال كونترول بالنسبة إلى الصندوق هو خريطة طريق نحو المعالجة النهائيّة للأزمة النقديّة، المتصلة بدورها بالأزمة المصرفيّة. وهذه الخريطة يفترض أن تحدد بدقّة السقف الزمني للضوابط على السيولة، وطريقة التدرّج في إزالة هذه الضوابط قبل العودة إلى الانتظام التام في سوق القطع وعمل المصارف التجاريّة. ومن هنا، لا يمكن للكابيتال كونترول أن يكون إصلاحاً تمهيدياً وشكلياً في المرحلة الأولى كما تخطط الحكومة.
أمّا النقطة الأساسيّة، فهي أن الخسائر المصرفيّة ليست برأي الصندوق مسألة يمكن التغاضي عندها في أولى مراحل الخطة، ومن ثم تركها للمعالجة على المدى المتوسّطة. فانكشاف الخسائر في النظام المصرفي سيحصل بمجرّد السير بفكرة توحيد أسعار الصرف، واعتماد المصارف ومصرف لبنان على سعر صرف عائم وجديد، للتصريح عن الالتزامات بالعملة الصعبة، بدل التصريح عنها بسعر الصرف الرسمي كما يجري اليوم. وبما أن توحيد أسعار الصرف هو حاجة ملحّة وفقاً لشروط الصندوق، فالحكومة لن تجد مفراً من التطرّق لمسألة الخسائر المصرفيّة في أولى مراحل الخطّة.
بالإضافة إلى كل ما سبق، يبدو أن مكيدة الحكومة ستواجهها مصاعب من نوع آخر، أبرزها الشلل في عمل الحكومة، وحجم الانقسام السياسي داخلها اليوم. كل هذه العوامل ستعيق حتماً إنتاجيّتها، وقدرتها على تمرير الخطة الماليّة الموعودة بالسرعة التي تحتاجه، لإنجاز التفاهم مع صندوق النقد، والحصول على أوّل دفعة من القرض قبل الانتخابات. كما من شأن هذا الانقسام أن يفقد الحكومة القيادة السياسيّة التي تحتاجها، للتمكّن من فرض ملف بحجم برنامج قرض مع صندوق النقد الدولي، مع كل ما يعنيه ذلك من شروط وآليات مراقبة من قبل الصندوق.