سلّمت الشركات المهتمة بتقديم الخدمات الاستشارية للحكومة ملفاتها أمس، تمهيداً لدراستها وتعيين مستشارين قانوني ومالي. وبالتوازي كانت بعثة صندوق النقد الدولي تستمر في نفض يدها من المساعدة التقنية للحكومة، مع توجيهها النقاش نحو الإجراءات الإفقارية. أما المصارف فلم تيأس في سعيها إلى استكمال الانهيار الذي بدأته بتسليف الدولة أموال المودعين، طمعاً بالأرباح الهائلة، وأنهته بسرقة هذه الأموال، متغاضية عن حقيقة أن أي إعادة هيكلة لتنجح يجب أن تبدأ بالقطاع المصرفي
لا تزال بعثة صندوق النقد الدولي برئاسة مارتن سيريزولا تستطلع كل المعطيات المتوفّرة والخيارات الممكنة. التقت وزير المالية أمس، ويتوقع أن تلتقي حاكم مصرف لبنان اليوم. في اجتماعاتها المستمرة، لا تترك مناسبة إلا وتوجّه فيها النقاش إلى حيث تريد، من دون الإفصاح عمّا تحمله من خطط. تحمل الأسئلة وتتحفظ عن الإفصاح عن الإجابات التي تملكها. لا يريد الصندوق أن يتحمل مسؤولية إجراءات ليس هو من يقوم بها، وفق برنامجه المحدد.
تركز بعثة صندوق النقد على الأسئلة المتعلّقة بالواقع الحالي أو التوقعات المستقبلية. ما هو حجم الدين حالياً؟ ما هي التوقعات للمداخيل والنفقات؟ ما هي إجراءات مواجهة تراجع الاقتصاد؟… ثم ينتقل النقاش، من جانب ممثلي صندوق النقد إلى الآتي:
ضرورة اتخاذ قرار سريع بإلغاء ازدواجية سعر صرف الدولار، وأن لبنان معني بقرار رسمي يحرر السعر الحالي لأنه لم يعد منطقياً، وأن يصار في المقابل الى اجراءات لمنع المضاربة. هناك مقترح في الحكومة ويجري بحثه مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يقضي برفع السعر الرسمي للدولار الى نحو 2200 ليرة، مقابل اجراءات استثنائية من بينها تجميد جميع رخص الصرافة في لبنان وايكال المهمة الى المؤسسة اللبنانية للصيرفة التي تخضع لسلطة مصرف لبنان والتي تتعامل مع المصارف. وان يترافق ذلك مع تشريعات جديدة لتشديد العقوبات على المتلاعبين بالعملة. وقد وعد الرئيس نبيه بري بأنه سيساعد في اقرار هذه التشريعات.
مع ان في الفريق الحكومي، وحتى رئيس الحكومة من يريد تجنب العمل مع صندوق النقد، الا ان غالبية التوصيات تقول بأنه لا مفر من التعاون معه. لكن دياب يفكر مع بعض الوزراء في كيفية عدم الأخذ بكل استشاراته، وخصوصاً تلك التي تدعو الى تقليص القطاع العام الآن أو الى رفع معدلات الضرائب، وخاصة ضريبة القيمة المضافة (TVA) التي يكثر وفد «الصندوق» من السؤال عنها.
بعثة الصندوق صارت مدركة أن لبنان لا يملك خطة بعد. وإن كانت الحكومة تؤكد أن إعداد الخطة المتكاملة جار على قدم وساق، فإن الخوف الفعلي في أن تكون النتيجة خططاً لا خطة واحدة. كثرة الطباخين واللجان تربك أكثر مما تنتج. أمس سلّمت الشركات المهتمة بتقديم الاستشارات المالية والقانونية عروضها إلى وزارة المالية. كما كان متوقعاً، ثماني شركات تقدمت إلى استدراج العروض المتعلق بالاستشارات المالية (مهمتها الأساسية إعداد التقارير عن آليات عمل التوقف عن السداد والسيناريوات المفترضة للتفاوض مع الدائنين وكلفة كل سيناريو)، إحداها GSA partners، التي أشار النائب ميشال ضاهر، في تغريدة له أمس، إلى أن «هناك إصراراً من أحد النافذين الماليين للعمل على فوزها»، كاشفاً أنه «طُلب منها التقدم بأقل سعر للفوز».
سلامة لا يزال مصراً على عدم تقديم معلومات مفصلة
وكما كان متوقعاً فقد قدم الوزير السابق كميل أبو سليمان (شركة «ديكيرت») عرضه لتقديم الاستشارات القانونية أيضاً، إضافة إلى شركتين أخريين، بالرغم من الإشارات إلى تضارب المصالح بين كون أبو سليمان محامي عدد من المصارف حاملة السندات، وبين تقديمه عرضاً لتمثيل الدولة. حتى بين المصارف، يشكل طرح اسم أبو سليمان إشكالاً. أمس خرجت أصوات من المصارف تركّز على ضرورة عدم توليه مهمة تمثيل الدولة، مقابل أصوات من داخل الحكومة تعتبر أنه الأكفأ لإدارة هذه العملية. وبناءً عليه، أعلن أبو سليمان، في بيان أمس، أن تضارب المصالح أمر تنظمه قواعد صارمة تطبّق على مكاتب المحاماة العالمية وفق معايير دقيقة ومحكمة». واعتبر أن مطالبته منذ ستة أشهر «بإعادة هيكلة الديون الخارجية دفاعاً عن مصالح المودعين، يُسقط أي اتهام يوجه إليّ بتفضيل مصالح المصارف على مصالح الدولة».
بعيداً عن التوجه الحكومي في ما يتعلق بتعيين الاستشاريين الدوليين، حيث يتوقع أن تستمر دراسة الملفات اليوم، فإن المصارف لم تيأس من السعي إلى تقديم مصلحتها على مصلحة الناس. أولويتها المطلقة تحصيل قيمة سندات اليوروبوندز بحجة المحافظة على أموال الناس وحقوقهم…. الأموال نفسها التي سرقتها من المودعين. ولذلك، عاد أمس احتمال دفع فوائد شهرَي آذار ونيسان والمقدرة بنحو 300 مليون دولار إلى النقاش، من خلال الإشارة إلى إمكانية «كسب الوقت»، ريثما يتم التحضير لإعادة الهيكلة بشكل علمي وهادئ ومن دون الوقوع في «التخلف عن الدفع». لكن هذا الطرح لا يلقى حتى اليوم تجاوباً من المعنيين، الساعين إلى إعداد الخطط المطلوبة لمرحلة ما بعد التخلّف عن السداد. في الأساس تتغاضى المصارف وبعض القوى السياسية عن حقيقة أن المطلوب هيكلته ليس الديون فقط، بل القطاع المصرفي برمّته، مصرفاً مركزياً ومصارف تجارية. فالمفلس ليس الدولة وحدها بل المصارف أيضاً. التزامات المصارف تفوق بأضعاف التزامات الدولة، وإن كان يستحق على الأخيرة 7 مليارات دولار في العام الحالي، فإن المصارف التي سرقت المودعين مدينة بأكثر من 150 مليار دولار، قامرت فيها عن طريق لتسليف الدولة ومصرف لبنان. ولولا هذه الديون التي كانت تحصّل مقابلها ثروات طائلة لما خرب البلد في هذا التوقيت.
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لا يزال مصراً على عدم تقديم معلومات مفصلة أو آراء حول ما يحصل. هو وعد رئيس الحكومة أن يعطيه اليوم جردة بالمالية العامة الموجودة لديه وبالوضع النقدي عموماً. وهو يواصل تهويله بذريعة الخشية من تعرض المصارف اللبنانية لصعوبات مع مصارف المراسلة في حال تخلف لبنان عن الدفع.
سلامة يمارس اليوم الضغط وهو أوقف اعتمادات تعود الى المنشآت النفطية، الأمر الذي قد يؤدي الى أزمة في أسواق المحروقات.