«صيرفة»، هي الكلمة التي تحلّ كلما اجتمع اثنان. هو ابتكار من خزعبلات هذا الزمان وضحاياه: نحن، الجميع الجميع فقراء وأغنياء متعلقون بقشه صيرفة وكأن البلاد والعباد، في سواها، بألف خير. نجح مصرف لبنان بإلهائنا والبقية: تفاصيل.
كان موعدها في المصرف مع صيرفة هذا الزمان يوم الجمعة، في العشرين من كانون الثاني 2023. أخذته قبل شهر. في كانون الأول 2022 وتصرفت على أساسه إنطلاقاً من مقولة: أصرف ما في الجيب، وهو قليل، يأتيك ما في الغيب مع صيرفة. موعد زميلتها كان في التاسع عشر من كانون الجاري. ونتيجتها أتت: «فوفاش». لا شيء. لا صيرفة. إتصلت بـ «كول سنتر» فأجابتها إحداهن وتدعى هلا: «لا تصرفي مدام دولاراتك فالمصرف أوقف عمليات صيرفة للأفراد. راجعت آخر بيانات مصرف لبنان: على كل مواطن لم يتجاوب معه مصرفه المعتاد أن يتجه الى بنك الموارد لإجراء عملية صيرفة. سألت عنه فقيل لها: إنتهت مفاعيله. عادت الى بيان مصرف لبنان في 27 كانون الأول 2022: أعلم مصرف لبنان المصارف وقف عمليات صيرفة الشركات وحصرها بالأفراد، حتى حدود 100 مليون، حتى نهاية هذا الشهر. تعاميم تعاميم والعشاء: خبيزة. هي سعدنات الحاكم و»قرف» المصارف. فماذا يفعل من صرف دولاراته على 43 ألفاً – وحتى أقل – وأودعها في المصارف وخسر على الميلين بعدما ارتفع الدولار أكثر من عشرة آلاف في أقل من عشرة أيام؟
إسألوا الحاكم
في «سوسييته جنرال» أعطوا من استجاب الى بيان الحاكم وأودع 190 مليوناً، نصف المبلغ دولاراً وردوا النصف الآخر بالعملة اللبنانية على أساس 38 ألفاً. هي خسارة فوق خسارة فوق بهدلة فوق انتظار. لكن، من جديد، فكّر المواطن المقهور أن نصف الخسارة أفضل من كلها. والملفت في كل ذلك، هو أن المصارف تعترف بأن الأمر لا يطاق لكن «إسألوا الحاكم». هو المذنب. في بنك مصر ولبنان أودع أحدهم في فرعه في الـ «داون تاون» مئة مليون ليرة، إتصلوا به ليأخذ نصف المبلغ بالعملة اللبنانية ونصفه الآخر بالدولار الفريش. نزل حزيناً. وحين وصل ووقف بين الزبائن المتجمهرين، دخل عنصر بالثياب العسكرية ورفع مسدسه وصرخ غاضباً وهدد فأخذ كامل وديعته واضطر المصرف لأن يُسدد ذلك لكل الواقفين. فما معنى ذلك؟ بالقوة يحصل كل شيء والمصرف بحوزته الدولارات لكنه يقنن بها للمعارف. إستفاد هو من تلك اللحظة أما غيره فلا. هو عهد القوة والفجور اللازمين للتعامل مع دولة مستهترة ومصرف مركزي حرامي ومصارف تنصب «على الطالع وعلى النازل».
هي، صاحبة الموعد في العشرين من الشهر، راجعت مصرفها مجدداً فقيل لها: مصرف لبنان لا يعطينا الدولارات فماذا نفعل؟ شعرت وكأن الحلول بين يديها وحدها. راجعت نشاط صيرفة في العشرين من الشهر الجاري فظهر لها: أن نشاط صيرفة في العشرين من كانون الثاني كان 50 مليون دولار فأين ذهبت؟ ومن استفاد منها؟ كل أشكال الشتائم رمتها على سياسات مصرفية إستثنائية دائما عنوانها: الفساد والسعدنات.
أمام مصرف سوسييته رأت شعاراً مرفوعاً: بدنا نتعالج… بدنا مصرياتنا. لكن، لا من يسمع ولا من يرى. أبواب المصارف موصدة أمام «الزبائن الكرام» المشلوحين في وعر الأزمة.
فلنسأل الوزير السابق جورج قرم، الدكتور الغائب عن السمع الذي بُحّ صوته من زمان وهو ينذر، منذ أيام البحبوحة، بأن الأمور «مش ماشية». هو يراقب الوضع من بعيد لبعيد وجوابه على كل ما يصدر من تعاميم وما يحدث من تفاصيل: «شي بيقرّف» ويستطرد «لا تسأليني عن شيء يقوم به حاكم مصرف لبنان… فكل أشيائه خارجة عن لغة العقل».
سؤال آخر يطرح هنا: هل هي مسؤولية العالم، مسؤوليتنا، في أننا نبحث عن بعض الأرباح في زمن الخسارات الكبرى ونصدق من جديد من سرقونا؟ يجيب قرم «أصبح معروفاً ما يقوم به الحاكم من أمور سلبية للغاية، في ظل فوضى نقدية عارمة، ولا أحد تغيب عنه نسبة التضخم و… و(يبتسسم من المرارة مضيفاً) والأسوأ من كل ذلك أنهم بدأوا يحدثوننا أيضا عن «فريش ليرة»!».
في المقولات الشعبية: مسؤولية حماية أنفسنا من تلقي الهزيمة تقع على عاتقنا». لكن، كيف؟ الناس حاولوا وفشلوا وها هم يلهونهم في أمور جانبية بعدما أدموهم. مشكلتنا في أنهم وصلوا الى السلطة فحولوا كل شيء الى عبودية واستعباد وعبيد، في حين أن رجل السلطة الحقيقي هو الرجل الحرّ والحرّ لا يستعبد. لكن، أين لبنان من رجال السلطة؟
نحاول أن نستفيد أكثر من آراء جورج قرم في الموضوع المالي لكن إجابته أتت حاسمة: «بحّ صوتي لكثرة ما تكلمت في الماضي وأعتقد أنني تحدثت كفاية لكن الآذان صماء».
يكاد يشعر اللبناني المسكين وكأنه أصبح وحيداً يتخبط في نار جهنم وهو حيّ. رابطة المودعين لديها ملفات لا تأكلها النار من مودعين «معترين» يعانون الأمرين. فكيف تتعامل اليوم مع هذا الملف المشحون تحت عنوان صيرفة؟ يجيب عضو الرابطة هادي جعفر «تردنا يومياً إتصالات كثيرة من ناس خائفين على أموالهم المحتجزة من جديد لدى المصارف التي «تاجرت» أيضاً بها، وحققت أرباحاً في «تمريقة» بين الحاكم والمصارف المقربة منه من أجل تحقيق المزيد من الأرباح على حساب المساكين. ويستطرد: صيرفة ليست إلا تفصيلاً غير قانوني في سلسلة لا تنتهي من الأساليب التي تعتمد. فكل التعاميم وحتى التعميم برفع سقف الدولار في المصارف الى 15 ألفاً غير قانونية ويفترض أن تتحرك السلطات المعنية كافة إزاء ذلك. مطلوب أن يستعيد مصرف لبنان دوره. مسؤولياته التقصيرية، كما يعلم الجميع، هائلة. وكلنا نستغرب لامبالاة المعنيين حيال ذلك. لجنة المال والموازنة قادرة، لو أرادت، على إجراء جلسات مساءلة، خصوصاً أن اللجنة مشكلة من كل الكتل في المجلس النيابي، وبالتالي لو اتخذت قراراً وأعلنت بطلان القرارات الخنفشارية الصادرة عن حاكمية مصرف لبنان، ووضعت قوانين تمنع أعمال البلطجة، لكان مجلس النواب أقرها».
لوّ… ولوّ… وألف لوّ. لكن شظايا التعاميم تستمرّ تضرب يميناً ويساراً الحال والعباد. فها هو قرار تسديد القروض سيوضع موضع التنفيذ في الأول من شباط على سعر 15 ألفاً. فكيف لعنصر في قوى الأمن الداخلي تسديد قرضه؟ وكيف لموظف في القطاع العام أيضا ذلك؟ وماذا عن نسبة الهيركات التي ستقتطع من مودع بالعملة الأجنبية سيأخذ وديعته على أساسس 15 ألفاً وسعر الدولار يزيد في السوق عن 51 ألفاً؟
نكون في صيرفة فنصبح في كل بيان وتعميم وقرار و»ضربة كف» أكلناها من قطاع مصرفي وعدنا أن يبقى الى جانبنا في الأوقات الصعبة فدمرنا. ترى، ألم يحن للقضاء أن يناصر المودعين في وجه السارقين؟ يسأل هادي جعفر.
أموال محجوزة
ما زلنا في كانون الثاني. وما زال تعميم مصرف لبنان بخصوص صيرفة سارياً. وما زالت أموال كثير كثير من المودعين بالعملة اللبنانية الفريش محجوزة في المصارف بانتظار إستعادتها بالفريش لكن بالدولار. فهل من توقعات بمصيرها من رابطة المودعين؟ يجيب جعفر «لا أحد يعرف مصيرها لأن وحده «أبو الأرانب» يتحكم في كل كل شيء ولا أحد قادر على إعطاء أي جواب في الموضوع حتى أهل السلطة».
لم نأخذ جواباً. فلنحاول متابعة الموضوع من مصادرها. ماذا عن آخر ما في جعبة مراكز خدمة الزبائن؟ في بنك بيبلوس الذي لم يفتح خدمة صيرفة إلا لأصحاب الودائع الكبيرة أتى الجواب على شكل سؤال: متى أجريتم عملية صيرفة؟ «إذا فعلتم ذلك في 10 و11 كانون الثاني فمن الممكن أن تقبضوا المبلغ يوم الجمعة المقبل في 27 هذا الشهر. وإذا أجريتم صيرفة في 12 و13 هذا الشهر (أي آخر عمليات صيرفة أجراها المصرف) فلا فكرة عن موعد إستعادة المبلغ». سؤالٌ آخر، هل سيقبض المودعون صيرفة بالدولار أم «نص نص»؟ الجواب: «حسب إرادة مصرف لبنان في وقتها»!
فلنسأل في بنك عوده. في خدمة الزبائن التي تتباهى بالقول: always at your service تأكيد: «الجواب عن مصير صيرفة ليس لدينا. راجعوا موقع البنك الإلكتروني لأنه من الممكن جداً، ونحن نتكلم، أن يحصل تعديل من مصرف لبنان». نفهم من كلام المصرف أن كل ما يدور ليس إلا «كلاماً بكلام» ونحن نصدق. ندخل الى موقع عودة فنجد معايدة: ميلاد مجيد وأمل جديد. بهذا هم شطار. نغوص أكثر في الموقع فنجد معلومات ثابتة: سحب صيرفة غير فعال inactive. وكاش دولار مقابل كاش لبناني inactive. وصلنا الجواب: لا صيرفة.
وينسحب تعاطي «عودة» و»بيبلوس» و»سوسيتيه» على كل المصارف الباقية. أموال الناس – أو آخر أموال الناس – المودعة «فريش» في المصرف في خطر متجدد. فكلام الليل في القطاع يمحوه النهار وبين تكة وتكة تعميم مختلف. الله ينجينا من الآتي.