تستفيد آلاف العائلات اللبنانية من دولارات شهرية يقدّمها برنامجان للمساعدات، أحدهما يحمل اسم “البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً”، أو ما يُعرَف ببرنامج “بطاقة وزارة الشؤون”، والبرنامج الثاني يحمل اسم “برنامج أمان”.
لم تكن المبالغ المالية المقدَّمة بصيغة مساعدات، قادرة على تجنيب شريحة واسعة من اللبنانيين السقوط في أزمة الفقر، لكنها شكّلت رافداً بالدولار للأسر الفقيرة. إلاّ أن هذا الرافد مهدَّدٌ بالجفاف بسبب نقص التمويل، الذي يلعب في الوقت نفسه مع شبكة الفساد في المناطق اللبنانية دوراً في حرمان الفقراء من مداخيل ضرورية.
نقص تمويل مفاجىء
تواجه الأسر اللبنانية المستفيدة من تقديمات برنامج مساعدة الأسر الأكثر فقراً، عبء تقليص الدول المانحة لحجم المساعدات الدولارية الشهرية التي تقدّمها عبر البرنامج. فالدول المانحة أبلغت وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجّار، قرارها عصر نفقاتها في وقتٍ يحتاج فيه اللبنانيون إلى المزيد من المساعدات لمواجهة ضيق سبل العيش واتّساع رقعة الحرب الإسرائيلية على الجنوب اللبناني، وما تعكسه من ضغط على الأسر. فيؤكّد حجّار أن الدول المانحة أبلغت الوزارة بعدم قدرتها على تأمين المبلغ الذي تحتاجه. بل تستطيع دفع نحو 33.3 مليون دولار لسنة 2024، في حين أن لبنان يحتاج إلى نحو 147 مليون دولار تستفيد منها 75 ألف عائلة.
ويشير حجّار في مؤتمر صحافي عقد في مبنى الوزارة، يوم الجمعة 19 كانون الثاني، إلى أنه “بدأنا التفاوض مع الدول المانحة للتراجع عن قرارها، خصوصاً وأنه لم يتغيّر أي شيء في الوضع اللبناني”. ويستغرب حجّار اتخاذ تلك الدول هكذا قرار سيّما وأن التحديات ما زالت تواجه لبنان، ومنها “زيادة أعداد النازحين السوريين والحرب المشتعلة في الجنوب اللبناني”. ويضيف أن الوزارة “تبلَّغَت قرار تقليص النفقات منذ منتصف كانون الأول 2023”.
التبليغ السريع يرتّب آثاراً كارثية على آلاف العائلات “ويشكِّل خطراً على الأمن والاستقرار الاجتماعي في لبنان”، حسب الحجّار، ولذك “كان يفترض مناقشة تخفيض التمويل قبل نحو سنة على الأقل”.
مشروع الأسر الأكثر فقراً والذي انطلق منذ نحو 11 عاماً، مرَّ بمرحلتين أساسيّتين، هما دفع المستحقات بالليرة، ومرحلة دفعها بالدولار، كسبيل للحفاظ على قيمة المساعدات وعدم ضياعها في زحمة الارتفاع المتزايد لسعر صرف الدولار. ولتأمين استفادة نحو 75 ألف عائلة من نحو 147 مليون دولار، أبدى حجّار تجاوبه مع الإصلاحات المطلوبة من قِبَل الدول المانحة للاستمرار في تقديم المال. ووفق حجّار، تمّ اعتماد “المكننة والشفافية واعتماد توحيد برامج المساعدات. كما طلبوا أن يكون هناك سجلّاً اجتماعياً يمكِّن كل فردٍ لبنان من الحصول على رقم اجتماعي على غرار الرقم المالي”. ويترافق ذلك مع العمل على “وضع خطط اجتماعية وصحية وتربوية غير مترابطة”. ولضمان حُسن تنفيذ الشروط للحصول على التمويل، تم وضع “استراتيجية وطنية للحماية الاجتماعية”، وتم توقيعها في مجلس الوزراء، وبانتظار إطلاقها. إلى جانب استحداث “مركز للشكاوى في وزارة الشؤون الاجتماعية”.
عبارة “سحرية”
على مدى سنتين، قَبَضَ المستفيدون من برنامج “شبكة أمان” مساعدات مالية شهرية أتت بفعل إبرام لبنان لقرض مع البنك الدولي بقيمة 300 مليون دولار، جرى اقتراضها “لمواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19) وتفجير مرفأ بيروت وحجز أموال المودعين في المصارف”، على حد تعبير حجّار. لكن الأموال المفترض دفعها لتغطية المساعدات المخصصة للعام 2024 تواجه مصيراً مجهولاً. إذ أن اتفاقية القرض والشروط التي وضعها البنك الدولي، جرى في لبنان إقحام عبارة صغيرة داخلها، فخّختها وهدّدت الاتفاقية برمّتها. إذ أدخل مجلس النواب إلى الاتفاقية قبل إقرارها بقانون، عبارة “أن يتم الصرف بحسب آلية مقبولة من مجلس الوزراء”. واعتبر البنك الدولي إضافة العبارة، كأنها تغيير بصيغة الاتفاق “ما يستوجب إعادة عملية التفاوض على اتفاق جديد”، وفق ما تؤكّده مصادر متابعة لهذا الملف. لكن حجّار يلفت النظر إلى انه يتابع الموضوع “مع الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي، لإزالة العبارة التي أضيفت في مجلس النواب”. وبانتظار حل المعضلة، تتابع وزارة الشؤون الاجتماعية المراحل التقنية الإدارية المطلوبة لتنفيذ الاتفاقية، وهي “مرحلة التوقيع في الحكومة، والمرحلة المتعلّقة بوزارة المالية، ومرحلة ديوان المحاسبة ومرحلة المصرف المركزي”.
تكشف المصادر أن “قرار إضافة العبارة، جاء من قِبَل أطراف سياسية تريد الاستفادة من الأموال وتوزيعها بطريقة المحسوبيات على الأسر. وتلك الأطراف لم تستطع الاستفادة كما يجب من الأموال بسبب المنصّة التي تعتمدها وزارة الشؤون الاجتماعية لإدارة عملية التوزيع. وباعتماد المنصة يتقلّص هامش الخطأ إلى نحو 5 بالمئة فقط، ويمكن تصحيحه بعد اكتشافه”.
وتوضح أن “إضافة العبارة جاءت بشكل مقصود لأن البنك الدولي رفض أي تعديل وسيطلب وقتاً لدراسة النص الجديد في حال الإصرار على تعديله. وبالتالي، فإن الأطراف السياسية اللبنانية تريد عرقلة تنفيذ الاتفاقية ما لم تستطع ضمان سيطرتها على توزيع الأموال”.
بالتوازي، يحمل اتفاق القرض 3 أجزاء، أوضحها الجزء المتعلّق بالتحويلات النقدية للأسر المستفيدة، وتُستَعمَل لتغطية نفقات الاحتياجات الغذائية الأساسية، والثاني يتعلّق بدعم الطلاّب المعرّضين للتسرّب المدرسي. أما الجزء الثالث والأهم، وهو المتعلّق بتعزيز برامج التنمية وتعزيز قدرات وزارة الشؤون الاجتماعية “وفي هذا الشق، تستفيد الأطراف السياسية والأحزاب”.
وتؤكّد المصادر أن “الأطراف السياسية اللبنانية تفتعل هذا الإشكال لأنها لا تريد السير بشروط البنك الدولي، الذي لن يوافق على تقديم القرض ما لم يضمن الشفافية في توزيع الأموال، لأن أي تغيير قد يساهم في الهدر”.
تختلف العناوين والبرامج، لكن تبقى قاعدة استغلال السلطة السياسية للأزمات، قائمة. فتلك السلطة تبحث عبر أحزابها وأدواتها وجمعياتها عن سبل الوصول إلى الأموال، حتى لو كانت قروضاً، لتوزيعها على المحتاجين لتضمن بسط سيطرتها عليهم، حتّى في عزّ محنتهم. والمشكلة أن الأجيال القادمة ستدفع تلك الأموال لتَفي مستقبلاً ديون حقبة الفساد المستمر حتى اللحظة.