ظهرت مؤشرات جديدة تدل على تفاقم الأزمة المالية، وتقلص قدرات البنك المركزي والجهاز المصرفي التي كانت تتكفل بسد الاحتياجات المالية للدولة وللقطاع الخاص. توازياً مع الضمور المتزايد لحركة الرساميل والودائع الوافدة، بما يشمل حركة تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج والمغتربين، والبالغة بين 7.3 و8 مليارات دولار سنوياً.
ووفقاً لبيانات منجزة ومجمعة لدى مصرف لبنان، اطلعت “الشرق الأوسط” على معطياتها، سجّل ميزان المدفوعات رقماً قياسياً وغير مسبوق في قيمة العجز الشهري خلال شهر أيار الماضي، بما يصل إلى نحو 1882 مليون دولار، ليرفع قيمة العجز التراكمي في أول 5 أشهر إلى مستويات قياسية أيضاً عند نحو 5.2 مليار دولار، أي ما يزيد على 9 في المائة من إجمالي الناتج المحلي المقدر بنحو 57 مليار دولار.
ومن اللافت أن العجز في ميزان المدفوعات يتوالى على مدى الأشهر الـ11 الماضية، ويتّجه لإكمال سنة تامة بعد الإفصاح قريباً عن أرقام شهر حزيران، حيث تدل الإشارات الأولية إلى عدم حصول أي تطور يسهم في تصحيح هذا المسار. وتقارب الحصيلة الإجمالية نحو 10.4 مليار دولار للعجز التراكمي التواصلي المسجل بين نهاية ايار من العام الماضي، ونهاية الشهر عينه من العام الحالي.
وتمدد الضعف في الأداء إلى القطاع المصرفي، بخلاف تميزه المستدام ونجاحه في حفظ مقومات نموه وثباتها بما يفوق بأضعاف نمو الاقتصاد في السنوات الصعبة المتلاحقة منذ نشوء الأزمة السورية ربيع عام 2011، وما سببته من إرباكات على مجمل الحركة الإنتاجية والتشغيل في كل القطاعات وضغوط على مستوى الخدمات العامة والبيئة والإمداد بالطاقة الكهربائية وسواها. وذلك بفعل موجات نزوح متتالية أفضت إلى وجود نحو 1.3 مليون سوري، أي أكثر من ثلث اللبنانيين المقيمين. فضلاً عن تأثير الفراغات الرئاسية والحكومية لفترات متقطعة وطويلة نسبياً والإرباكات الداخلية والزيادات الكبيرة في الإنفاق العام والرواتب لموظفي الدولة، من دون التأكد من فاعلية إجراءات تحسين الواردات، التي أثبتت عقمها في تنفيذ موازنة العام الماضي.
ويؤكد مسؤول مصرفي لـ”الشرق الأوسط” أن المشكلة البنيوية الصعبة التي تواجهها البنوك، وتزيد حدة من شهر إلى شهر منذ عامين، تتعلق بالركيزة الأساسية للعمل المصرفي القائمة أصلاً على التمويل وإدارة الموارد في اتجاهاته المتنوعة بين الأفراد والمؤسسات. فبفعل الاختلالات في الأموال الوافدة وتراجع الودائع وارتفاع الفوائد المعروضة، زادت الضغوط كثيراً على المحافظ الائتمانية لدى المصارف.
وزادت سرعة الانكماش التسليفي بنسبة تجاوزت 5 في المائة خلال الأشهر القليلة الماضية، وتوازي نحو 3 مليارات دولار. وهي موزعة بين تراجع في التسليفات للقطاع الخاص المحلي بقيمة 2.6 مليار دولار، من 51.8 مليار دولار في نهاية العام الماضي، إلى 49.2 مليار دولار في نهاية ايار. وبين تراجع إضافي في التسليفات للقطاع الخاص غير المقيم بنحو 480 مليون دولار، أي من 7.11 مليار دولار إلى 6.63 مليار دولار.
وتشهد المصارف، للمرة الأولى منذ سنوات، هبوطاً مثيراً في بند ودائع الزبائن الإجمالية، بلغ نحو 3 مليارات دولار توازي نسبة 1.74 في المائة خلال 5 أشهر. أي من نحو 172 مليار دولار في نهاية العام الماضي إلى نحو 169 مليار دولار في نهاية شهر ايار الماضي. وذلك رغم الارتفاعات المطردة في مستويات العوائد التي تراوح بين 10 و15 في المائة على الليرة، بحسب فترة تجميد الوديعة، بينما تقل إلى ما بين 6 و11 في المائة على الدولار. كما تعرض بعض المصارف برامج ادخارية بفوائد جزيلة على الودائع الجديدة.
ويستدل من البيانات المجمعة أن التراجع المسجل يشمل بندي ودائع المقيمين وغير المقيمين على السواء. ويعتمد البنك المركزي تصنيفاً للمودعين بحسب أماكن العمل والإقامة؛ ما يعني أن الجزء الأكبر من ودائع غير المقيمين تعود للبنانيين عاملين في الخارج أو مغتربين. وبالتفصيل، تدنت ودائع المقيمين من نحو 135 مليار دولار إلى نحو 133 مليار دولار في 5 أشهر، وتراجعت ودائع غير المقيمين في الفترة ذاتها، من نحو 37.2 مليار دولار إلى 36.3 مليار دولار.
ويشير رئيس الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب الدكتور جوزف طربيه إلى أن “المصارف اللبنانية أثبتت في الإجمال خلال الأزمة المالية العالمية قدرتها على امتصاص الصدمات وتكبد أضرار أقل مقارنة بالمصارف العالمية، نتيجة الإطار الرقابي الفعال والممارسات الفضلى في مجال إدارة المخاطر، ومع صدور معايير بازل 3، أكملت المصارف اللبنانية مسارها نحو تحقيق نمو قوي في نشاطاتها مع رفع مستوى رساميلها وتحسين نوعيتها بما يفوق الحدود الدنيا، وذلك قبل سنوات عدة من فترة الالتزام النهائية في كانون الثاني 2019، حيث ظلت تتمتع بسيولة كافية مكّنتها من مواجهة العقبات المستقبلية وأي أزمات محتملة على المدى القصير الأجل عن طريق نسبة تغطية سيولة مرتفعة، وعلى المستوى الطويل الأجل عن طريق نسبة صافي التمويل الثابت؛ وهي نسبة مرتفعة أيضاً”.
وتوقع طربيه أن تشكّل التعديلات الجديدة التي أقرتها لجنة بازل، والتي تدخل حيز التنفيذ بحلول كانون الثاني 2022، ضغطاً على رساميل المصارف العالمية عامة واللبنانية خاصة، التي بدأت بالتحضير لمرحلة الالتزام عبر إعادة تدوير جزء كبير من أرباحها، وتحسين نوعية موجوداتها المرجحة بأوزان المخاطر، ورفع مستويات التحوط واتباع سياسة تسليف واستثمار أكثر انتقائية في مختلف الأسواق المحلية والعالمية.
كما لفت إلى الالتزام المبكر للمصارف اللبنانية بالمعيار الدولي للتقارير المالية (IFRS 9) الصادر عن مجلس معايير المحاسبة الدولي والمتعلق بالأدوات المالية والمخصصات المالية. وأبرز ما فيه ضرورة تعزيز التنسيق بين الوحدات المتخصصة داخل المؤسسات ومع مفوضي الرقابة، وتحقيق التكامل والتوافق بين البيانات المالية والمخاطر، إضافة إلى تحديات جمع وحفظ البيانات التاريخية الضرورية لوضع النماذج الخاصة بالخسائر الائتمانية المتوقعة وتحديات البنية التحتية وأنظمتها.