في الذكرى الرابعة لاندلاع الازمة في 17 تشرين الاول 2019، لم يتغيّر المشهد الذي ساد آنذاك على الساحة اللبنانية لا بل أصبح أسوأ وأخطر على كافة الاصعدة. مع مرور 4 أعوام على انفجار الازمة المالية والنقدية بدءاً من القطاع المصرفي وصولاً الى الفراغ الحكومي والرئاسي وتفكك ادارات الدولة وانهيارها تدريجياً، وتفاقم الازمات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية، لم تحرز البلاد أي تقدم يذكر على مسار الاصلاح، لا بل زادت الازمة تفاقماً وتعقيداً باجراءاتها المجتزأة والعشوائية، وأطاحت بفرص الإنقاذ التي عرضها عليها صندوق النقد الدولي، متذرعة تارة بقدسية الودائع وطوراً بتركيبة النظام اللبناني التي لا تسمح للخارج بفرض شروطه عليها.
وكانت النتيجة ولا تزال: هدر أكثر من 100 مليار دولار من اموال المودعين ونحو 25 مليار دولار مما كان تبقى من احتياطي البنك المركزي، وتحوّل المصارف من محرّك للاقتصاد والنمو ومصدر جذب للودائع من مختلف البلاد، الى «أموات أحياء»!
بداية الصراع بين الطرفين
بدأ الصراع بين البنك المركزي والمصارف حول الجهة التي يجب ان تتحمّل مسؤولية الفجوة المالية التي ظهرت في ميزانية مصرف لبنان والتي تفوق الـ70 مليار دولار. وبدأت المصارف تتهم المركزي بانه أهدر توظيفاتها لديه البالغة 83 مليار دولار وهي عاجزة عن سداد اموال المودعين لان موجوداتها لديه «تبخرت»!
كانت المصارف تتغنى
ولكن المصارف التي كانت تتغنى بحجم السيولة الهائل لديها طوال سنوات مضت، تتحمّل إساءة استخدام وتوظيف تلك السيولة، التي هي اموال المودعين، وقد واظبت على تمويل الدولة (ومصرف لبنان) رغم علمها المسبق بسوء وضع الدولة المالي وعجزها، مستفيدة من الفوائد الخيالية التي عرضها عليها مصرف لبنان في فترة الهندسات المالية والفوائد على السندات السيادية. ورغم تحذيرات دولية عديدة وراء الكواليس وعلناً، شاركت المصارف بالهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان لجذب السيولة من الخارج، ومواصلة تغطية عجز الدولة وهدر الاموال.
كيف استدرج سلامة المصارف؟
وقد نجح الحاكم السابق للبنك المركزي رياض سلامة في حثّ المصارف طوعاً أو إكراهاً، على جذب الاموال وتوظيفها لديه لتصل الى حوالى 83 مليار دولار!
كيف استدرج سلامة المصارف للقيام بذلك؟ ولماذا؟ وما هي المغريات التي مارسها؟ وهل ان المصارف لم تكن تعلم فعلاً بحجم المخاطر المنطوية على ذلك؟ وفي حال كانت على دراية، لماذا لم تبلّغ عملاءها؟ لماذا تغاضت لجنة الرقابة على المصارف عن تلك المخاطر ومارست دور «الصم والبكم»؟
فساد وسوء إدارة طائفية للإقتصاد
ردّاً على ذلك، اعتبر مسؤول سابق في صندوق النقد الدولي ان الانهيار الكامل للاقتصاد اللبناني في تشرين 2019 لم يكن مفاجئاً لأي شخص يعي المفاهيم الأساسية للاقتصاد الكلي والاستدامة المالية. لان الانهيار أتى نتيجة الفساد المستشري وسوء الإدارة من قبل النخبة الطائفية التي تولت إدارة الشؤون الاقتصادية للبلاد منذ العام 1992.
واوضح لـ»نداء الوطن» ان الطبقة الحاكمة منذ تلك الفترة، قامت بالاقتراض بشكل كثيف لتغطية النفقات الجارية في المقام الأول. وقد بدأت الديون تتراكم وأصبحت غير مستدامة في اوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبدلاً من اتخاذ تدابير اقتصادية تصحيحية، استمرت الحكومات المتعاقبة في الاقتراض بأسعار فائدة أعلى.
وما كان صادماً وفقاً له، أن صناع القرار في لبنان ظنوا أنهم سيكونون قادرين على الاستمرار بنفس الإدارة الاقتصادية وتجنب الانهيار الاقتصادي والمصرفي بطريقة أو بأخرى. وقال: «ليس من الواضح ما الذي كانوا يفكرون فيه. كنا نعلم أنهم فاسدون، لكننا لم نعِ مدى عدم كفاءتهم».
تقاعس اللجان المسؤولة في المجلس النيابي
اضاف: لم يتساءل أحد على مرّ السنين، كيف استمرت المصارف في تحقيق الأرباح في اقتصاد منكمش؟ ماذا حلّ بميزانية مصرف لبنان عندما كانت الفوائد المدفوعة على شهادات الإيداع الخاصة به أعلى بكثير من المعدلات الدولية؟ كان ينبغي لهذه المؤشرات البسيطة أن تكون علامات واضحة على أن شيئاً غريباً وغير واضح يحصل في الميزانية العمومية لمصرف لبنان. لماذا لم تقم اللجان المسؤولة في البرلمان بعملها الرقابي؟
طائفية في تعيينات لجنة الرقابة
واشار الى ان الرقابة والمساءلة لم تكونا متاحتين في الوقت نفسه، لانه تم تعيين معظم أعضاء لجنة الرقابة على المصارف من قبل النخبة الطائفية التي كانت تستفيد من النظام الفاسد وتحميه. مما يدعو الى الاستنتاج أن لجنة الرقابة على المصارف فشلت فشلا ذريعاً في القيام بعملها.
المصارف شريكة في مخطط بونزي
وبالنسبة لكيفية حثّ المصارف على توظيف هذا الكمّ الهائل من السيولة لدى مصرف لبنان، لفت المسؤول السابق في صندوق النقد الدولي الى ان المصارف تدّعي أن مصرف لبنان أصدر عدة تعاميم حدّت من قدرتها على استثمار موجوداتها من العملات الأجنبية في الخارج. ورغم احتمال أن يكون هذا الكلام صحيحاً، إلا أنه لا يغير حقيقة أن المصارف كانت ركيزة مهمة واساسية في مخطط «بونزي» التابع لمصرف لبنان، لانها في النتيجة، منخرطة في وضع القطاع وكانت تعلم بالضبط ما الذي كان يحدث.
خسائر تثبيت سعر الصرف
أما بالنسبة لخسائر مصرف لبنان، فقال المسؤول إن جزءاً كبيراً من الـ 83 مليار دولار كان عبارة عن خسائر لتثبيت سعر الصرف. معتبراً ان الأمر غير العقلاني في ذلك، أن مصرف لبنان تعامل مع هذه الخسائر في ميزانيته العمومية على أنها «أصول أخرى» (other assets). متسائلاً: أين كان المدققون الحسابيون والحكومة والبرلمان من هذا الموضوع؟ لماذا تم السماح بتسديد القروض بالدولار على سعر صرف الـ 1500 ليرة؟
اضاف: جاءت خسائر مصرف لبنان الأخرى نتيجة أسعار الفائدة الخيالية التي دفعها على شهاداته ومن القروض المدعومة التي منحها مصرف لبنان لمختلف القطاعات الاقتصادية.
سلامة أدار البنك المركزي على مزاجه
وشدد المسؤول الدولي على انه كان من الممكن تجنب كامل البؤس الاقتصادي والمصرفي الذي لحق باللبنانيين لو كان لدى لبنان نظام سعر صرف معوّم ولو حافظ مصرف لبنان على استقلاليته. معتبراً ان السياسات المالية السيئة كانت ستؤدي إلى انخفاض كبير في قيمة الليرة، وكان من الممكن أن يكون ذلك بمثابة آلية تصحيحية للضغط على الحكومة لمعالجة عجزها المالي. لكن بدلاً من التركيز على قضايا الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي، عمل مصرف لبنان على انه بنك تنمية، واستخدم حاكم البنك المركزي السابق، الميزانية العمومية للمركزي، على مزاجه ووفق تقديراته وحساباته، وأدار مصرف لبنان كما لو كان متجره الخاص. وفي الخلاصة، اكد المسؤول السابق في صندوق النقد الدولي أن النظام برمّته كان فاسداً من جذوره، وكان الانهيار مسألة وقت لا أكثر ولا أقلّ.
كان الإنفجار ممكناً في 1998 و2004 و2005…
من جهته، اوضح الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود «ليس من باب التنظير ولكن في الاطار العملي»، ان رياض سلامة تعرّض لحالة مماثلة لحالة 17 تشرين 2019 في 1998 ولو بحدّة أقلّ. كما تعرّض لحالة شبيهة في 2004 و2005 و2006 وارتفع حجم السحوبات بشكل لافت آنذاك في مقابل ارتفاع مديونية الدولة بالعملة الاجنبية الذي بدأ منذ 1997 بالاضافة الى نمو قروض القطاع الخاص. معتبراً انه لو حصل تهافت على سحب الودائع في تلك الاعوام، لكانت أزمة 17 تشرين اندلعت آنذاك. إلا ان رياض سلامة استطاع الصمود بوجهها نظراً لعلاقاته المتينة دولياً وعربياً وعلاقاته مع البنوك المراسلة. وكان سلامة يبدي استعداده الدائم وجهوزيته لمدّ المصارف بالسيولة اللازمة، مما ساهم في إزالة عامل القلق لدى المصارف. واشار الى ان هذا الارتياح الذي كان يعكسه سلامة للمصارف لدى اي خضة يتعرض لها القطاع المصرفي في الاعوام السابقة، لم يكن موجوداً لدى اندلاع ازمة 17 تشرين.
في 2010 كانت إحتياطيات «المركزي» تفوق مطلوباته
شرح حمود انه في العام 2010 كان لدى مصرف لبنان احتياطيات صافية بالعملات الاجنبية تفوق حجم مطلوباته بالعملة الاجنبية، وكانت الاموال تتدفق على المصارف بكثافة الى حدّ لم تعد قادرة على تحمّلها، مما أدى الى انخفاض اسعار الفائدة على الودائع بالعملات الاجنبية الى ما بين 0 و1,5 %، في حين كانت اسعار الفوائد على القروض المصرفية بالدولار في العام 2008 و2009 و2010 تبلغ 4 الى 4.5%.
وذكّر بان القطاع المصرفي استطاع جذب حوالى 50 مليار دولار بين 2007 و2010 لم يكن الاقتصاد قادراً على استيعابها آنذاك، أي اقتراضها. وقد صبّت الازمة المالية العالمية في صالح لبنان في تلك الفترة حيث تهافت اصحاب رؤوس الاموال على نقل أموالهم من الخارج الى لبنان لحمايتها وتحقيق الارباح ولو بفوائد منخفضة. مما ساهم في حصول الطفرة العقارية وارتفاع معدل متر العقار الى 5000 دولار ومتر الارض الى 25 الف دولار.
إيعاز سياسي لتمويل سوريا اعتباراً من 2011
أضاف: في العام 2011 بدأت الازمة السورية، وكان هناك ايعاز سياسي بتمويل سوريا بطريقة غير رسمية، وهو ما كان يسمّى بالتهريب. وكانت السيولة الاجنبية في لبنان تلبي سوقين: اللبناني والسوري، الى حين بلغت خسائر مصرف لبنان لغاية 2015 حوالى 11 مليار دولار، علماً ان موجودات البنك المركزي في الخارج كانت لا تزال تفوق موجودات المصارف اللبنانية لديه. استمرّت الخسائر في العام 2016 الى حدّ أصبحت موجودات المركزي بالعملة الاجنبية لا تغطي مطلوباته، في مقابل ارتفاع التزامات الدولة بالعملة الاجنبية.
هندسات في ظل فراغ رئاسي
بدأ مصرف لبنان بالهندسات المالية في حزيران 2016 لاستقطاب اموال من الخارج في ظل فراغ رئاسي، وافتتحت 3 مصارف كبرى المشاركة في تلك الهندسات أوّلا، من خلال القيام بعمليات swift اي تحويل اموالها في البنوك المراسلة التي تتعامل معها في الخارج الى حسابات مصرف لبنان في البنوك المراسلة التي يتعامل معها. ثانياً، عمدت المصارف الى تأمين السيولة لمصرف لبنان من خلال بيع سندات اليوروبوندز التي تحملها في الاسواق العالمية.
ثالثاً، أغرت المصارف الزبائن لنقل ودائعهم من مصارف في الخارج الى لبنان، ونجحت في استقطاب مزيد من السيولة لحسابات مصرف لبنان في مقابل فوائد عالية كان مصرف لبنان يسددها للمصارف بالليرة اللبنانية، وكانت الاخيرة تعتبرها ارباحاً وتقوم بتحويلها الى عملات اجنبية.
كان يمكن اندلاع الأزمة في 2017
في تشرين الاول 2016 تم انتخاب رئيس للجمهورية بعد فراغ دام عامين، وفي نيسان 2017 تم التجديد لرياض سلامة الذي لم يعد قادراً على وقف الهندسات المالية بسبب عدم حصول لبنان على اموال «سيدر» الموعود بها بالاضافة الى استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، «ولو قرر سلامة وقفها آنذاك، لكانت الازمة المالية اندلعت في 2017 وليس 2019».
لجنة الرقابة لا تستطيع التدخل في السياسة النقدية
واكد حمود ان لجنة الرقابة على المصارف كانت مطّلعة على تراجع تصنيف لبنان الائتماني وتصنيف القطاع المصرفي من قبل مؤسسات التصنيف الدولية، وعلى ملاحظات وتحذيرات صندوق النقد الدولي، وعلى تحويلات المصارف وانعكاساتها على السيولة الخارجية، إلا ان لجنة الرقابة لا تستطيع التدخل بالسياسة النقدية ولا تستطيع ان تراقب إلا وفقاً للقانون والتعاميم، ولا يمكنها منع المصارف من الالتزام بالسياسة النقدية التي وضعها البنك المركزي. معتبراً ان لجوء لجنة الرقابة الى التحذير علناً آنذاك، كان سيؤدي الى تفجير الازمة المالية في 2016 و2017 و2018 وتحميل المسؤولية في ذلك الى تصريح لجنة الرقابة.
نكد سياسي وتبدّل أميركي
واوضح ان جزءاً من السياسة النقدية المتّبعة في تلك الاعوام كان ترتيب الوضع المالي والتعتيم على الانفجار المتوقع حصوله الى حين او على أمل الخروج منه او تخطيه على غرار العام 1998 و2004 و2005 و2006، «إلا انه وللأسف فان النكد السياسي والتبدل في السياسة الاميركية وتكثيف عقوباتها بدءاً من جمّال ترست بنك، بغض النظر عن صحّتها، انعكست سلباً على القطاع المصرفي.
تحذير عملاء المصارف كان يمكن أن يحثهم على التهافت
واعتبر ان تحذير المصارف عملاءها من المخاطر كانت بمثابة حثهم على التهافت لسحب اموالهم وتفجير الازمة عمداً، مشيراً الى انه في العام 2015، كانت موجودات المصارف لدى البنك المركزي تبلغ 30 مليار دولار، وكانت قيمة سندات اليوروبوندز التي تحملها تبلغ 20 مليار دولار، وكانت ديونها للقطاع الخاص تبلغ 40 مليار دولار، وكانت موجوداتها الخارجية تبلغ 12 ملياراً أي اجمالي 102 مليار دولار من الموجودات مقابل ودائع بقيمة اجمالية تبلغ 94 مليار دولار.
الإستنسابية ممكنة تحت أي ظرف
نتيجة الهندسات المالية، أصبح معظم موجودات المصارف بحوزة مصرف لبنان بينما قبل العام 2019، كان جزء من تلك الموجودات لدى البنوك المراسلة في الخارج. ورغم ذلك فان وجود الاموال في الخارج لم يكن ليضمن تسديد المصارف الودائع ولم يكن ليمنع الاستنسابية في التعاطي مع المودعين وتفضيل المودعين الكبار على المتوسطين والصغار.
على الدولة السداد لمصرف لبنان
وفي الخلاصة، شرح حمود ان السياسة النقدية المتّبعة كانت لحماية الدولة التي قامت بممارسات خاطئة لا تتحمّل مسؤوليتها لجنة الرقابة. مشدداً على ان اموال المودعين هي فعلاً لدى المصارف، إلا ان المصارف لديها مستحقات مالية لدى مصرف لبنان ولدى الدولة. وبالتالي، يجب على الدولة ومصرف لبنان تحديد كيفية تسديد تلك الديون ضمن برنامج اعادة جدولة واضج. وإذا تعذّر تسديدها بالعملة الاجنبية، يجب تسديدها بالليرة وفقاً لسعر الصرف الرائج في السوق، مما سيتيح للمصارف جدولة تسديد الودائع. وأي تعذر من قبل الدولة ومصرف لبنان في تسديد الديون للقطاع المصرفي سينعكس تعذراً في تسديد الودائع من قبل المصارف.
سياسة نقدية في خدمة منظومة سياسية
بدوره، اوضح نائب حاكم مصرف لبنان السابق د. غسان عياش ان مصرف لبنان سخّر منذ سنة 1993 السلطات الواسعة التي خصّه بها قانون النقد والتسليف لكي يجبر أو يحفّز المصارف على إيداع مبالغ طائلة بالعملات الأجنبية لديه لكي يستعملها في تحقيق هدفين عزيزين للسلطات السياسية وهما تمويل عجز الموازنة وتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية.
واشار عياش لـ»نداء الوطن» الى ان المصرف تنازل عن السياسة النقدية المستقلة التي تعتمدها المصارف المركزية عموماً للتأثير على الاقتصاد لا سيما كبح التضخّم أو تحفيز النموّ الاقتصادي، وجعل سياسته النقدية في خدمة المنظومة السياسة الحاكمة، وهذا يخالف تماما قواعد عمل المصارف المركزية في البلدان المتقدّمة التي عزّزت وحصّنت استقلالية مؤسّسات الإصدار لكي تخدم الأهداف التي تراها لمصلحة الاقتصاد وتمكنها من تحقيق وظيفتها المقدّسة وهي حماية المجتمع من التضخم.
إساءة استخدام الإحتياطي الإلزامي
اضاف: لكي يستقطب ودائع المصارف، استعمل مصرف لبنان حقه المحفوظ له قانونا بفرض احتياطي الزامي على المصارف بشكل نسبة مئوية من ودائع الزبائن لديها. تحديد هذه النسبة لجهة زيادتها أو خفضها هو من الأدوات التقليدية للسياسة النقدية التي تستعملها المصارف المركزية للتأثير على السيولة، حسب متطلبات الوضع الاقتصادي، إما بهدف الحدّ من النموّ السريع للاقتصاد بقصد لجم التضخّم، أو بالعكس عبر خفض النسبة لتيسير التسليف المصرفي وتخفيف كلفته للمساعدة على النموّ الاقتصادي. لكن مصرف لبنان أساء استخدام هذه الأداة النقدية المهمّة. فسخّر الاحتياطي الإلزامي لتمويل الدولة ولدعم العملة اللبنانية والسلع ضمن سياسة الدعم الخاطئة والمضرّة، لأنها لم تكن تخدم غايات اجتماعية مشروعة.
… ثم فرض التوظيفات الإلزامية والإيداعات الحرة
ولفت عياش الى ان مصرف لبنان لم يكتفِ بالاحتياطي الالزامي، بل أضاف إليه التوظيفات النظامية التي فرضها على المصارف وكذلك الإيداعات الحرّة. التوظيفات التي فرضها على المصارف من خارج الاحتياطي الإلزامي تشكل النسبة الأكبر من ايداعات المصارف لدى مصرف لبنان وهي تتناول الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف. وقد فرضت بموجب تعاميم صدرت تباعا عن مصرف لبنان خلال ثلاثة عقود، كان أوّلها التعميم رقم 14 في أيلول 1993، أي بعد مرور أحد عشر شهرا على بدء ولاية الحاكم السابق رياض سلامة، وقد سمح هذا التعميم المحوري بفتح حسابات جارية بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان وأجاز تنظيم مقاصة بالدولار بالعملات في المصرف المركزي.
2015 بدء الصرف من أموال المودعين
ومن اجل تكوين فكرة حول حجم إيداعات المصارف في مصرف لبنان، قال عياش «نلجأ إلى الأرقام المنشورة من قبل مصرف لبنان الذي صرّح ان موجوداته النقدية بالعملات (باستثناء الذهب) بلغت 9.8 مليارات دولار آخر سنة 2005 و27.7 مليارا آخر سنة 2010 وحوالى 36 ملياراً نهاية سنة 2015. لكن مصرف لبنان الذي اعتمد الغموض «البنّاء» لم يكن يظهر موجوداته الصافية بعد أن يحسم منها الالتزامات، لا سيما ودائع المصارف. ففي حين أظهر 36 مليار دولار كموجودات نقدية له بالعملات سنة 2015 تبيّن لاحقاً أنه في ذلك الوقت استنفد المصرف موجوداته الخاصّة الحرّة وبات يعتمد على إيداعات المصارف، أو المودعين لديه».
المصارف تتحمل المسؤولية الأولى
وأوضح ان الايداعات الحرّة في المصرف استندت إلى الاغراءات والفوائد المرتفعة التي كان المركزي يمنحها للمصارف لقاء ايداعاتها، وهي فوائد كانت تتجاوز أضعافاً مضاعفة معدّلات الفوائد العالمية. تتحمّل المصارف مسؤولية أولى عن هذا النوع من الإيداعات إذ كان عليها أن تتحسّس المخاطر العالية للسياسة النقدية التي تعكسها معدلات الفائدة غير الطبيعية، وكان من واجبها بالتالي أن تمتنع عن الانزلاق إلى هذه المغريات حفاظاً على ودائع زبائنها.