احتفت بعض الأوساط الإعلاميّة والاقتصاديّة مؤخّرًا بتسجيل المصارف اللبنانيّة “زيادات كبيرة” في صافي الموجودات الخارجيّة، أي موجوداتها في الخارج بعد حسم الإلتزامات المتوجّبة لمصلحة الأطراف الخارجيّة. وكان من الواضح أن تواريخ الأرقام التي جرى الإفصاح عنها، لتأكيد هذا “الإنجاز” اللافت، تراوحت بين شباط 2023 وكانون الثاني 2024، وهو ما يطرح السؤال عن سبب اختيار هذه الفترة لقياس التغيّرات، ومن ثم استعراض هذه النتائج “المبهرة” (والغريبة؟ والمريبة؟). وبطبيعة الحال، كان الهدف النهائي لهذه العراضات العودة للإشادة ببعض قرارات السلطة النقديّة في لبنان، وإظهار إنجازاتها على مستوى سيولة المصارف. وهل هناك إنجاز أفضل من تحسين سيولة المصارف، بعد كل ما طرأ من أزمات على القطاع؟
كما هو معلوم، مصارفنا لا تطبع الدولارات ولا تبيض الذهب. صافي الموجودات الخارجيّة هو عمليًا نسبة السيولة المتاحة بالعملة الصعبة. وأي زيادة في هذه السيولة، يُفترض أن يكون له مصدر واضح. وباستثناء عمليّات بيع بعض فروع المصارف في الخارج، والتي جرت غالبيّتها الساحقة قبل ثلاث سنوات، لا يوجد ما يمكن الرهان عليه لتعويم السيولة حاليًا، خصوصًا في ظلّ التعثّر الذي يضرب القطاع المصرفي حاليًا.
ما سرّ فائض الموجودات الخارجيّة إذًا؟ كيف جاءت الدولارات؟
سرّ التواريخ المريبة والزيادات الوهميّة
الأرقام تقول أنّ المصارف تمكّنت من زيادة صافي موجوداتها الخارجيّة، ومن ثم تسجيل فائض في هذه الموجودات، بقيمة 3.05 مليار دولار عام 2023. ما يعنيه ذلك، هو أنّ الفارق بين الموجودات والإلتزامات في الخارج ارتفع بهذا المقدار.
وعلى النحو نفسه، تابعت المصارف تسجيل هذه “الإنجازات” خلال العام الراهن، ليرتفع هذا الصافي بمقدار 223.4 مليون دولار، خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام. والتقارير التي عرضت هذه الأرقام، غالبًا ما أشارت إلى تعاميم المصرف المركزي، التي طلبت من المصارف تكوين “سيولة جاهزة” في الخارج، وكأن هذه التعاميم كانت كفيلة بدفع المصارف لخلق هذه الأموال من العدم! ما لم تتم الإشارة إليه هنا، هو مصدر هذه الفوائض.
لنعد إلى “الفائض” المُسجّل خلال العام 2023: من أصل الزيادة البالغة 3.05 مليار دولار خلال ذلك العام، في صافي الموجودات الخارجيّة، نجد أنّ 2.34 مليار دولار من هذا المبلغ جرى تسجيله خلال شهر شباط وحده. بمعنى أوضح، 77% من الزيادة السنويّة في صافي الموجودات الخارجيّة، التي يتم الاحتفال بها اليوم، جرى قيدها في المصارف خلال شهر واحد فقط.
ثمّة ما هو مريب ومثير للشك هنا. لا يوجد متغيّر اقتصادي طبيعي أو منطقي، قادر على تفسير تدفّق للسيولة بهذا القدر، وبهذه النسبة، خلال الشهر الثاني من العام. الغريب أكثر هنا، هو أنّ المصارف التجاريّة سجّلت هذه الزيادة الكبيرة، في حين أن صافي موجودات مصرف لبنان الخارجيّة انخفض بقيمة 240 مليون دولار، خلال الشهر نفسه.
تفسير المسألة أبسط مما نعتقد. خلال شهر شباط 2023، انتقلت المصارف لاحتساب موجوداتها وإلتزاماتها بسعر صرف 15 ألف ليرة للدولار، بدل 1,500 ليرة للدولار. قيمة الموجودات في الخارج، وهي عبارة دولارات فعليّة، لم تتغيّر عند احتسابها بالدولار النقدي. أمّا الإلتزامات المقوّمة بالليرة اللبنانيّة، لمصلحة أطراف خارجيّة، ومنها المودعين غير المقيمين، فهبطت بنسبة 90%، عند احتساب قيمتها بالدولار النقدي.
هكذا، ولدت فوائض غير موجودة إلا على دفاتر مصرف لبنان، والتقارير التي تشيد بتعاميمه. الكلام عن زيادة صافي الموجودات الخارجيّة هنا، خدعة، لا أكثر ولا أقل.
في العام 2024، لم تختلف أسباب الزيادة: من أصل الزيادة المقدّرة بـ223.4 مليون دولار خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام، ترتّب 197.5 مليون دولار من هذا المبلغ خلال شهر كانون الثاني وحده. السبب هو انتقال المصارف لاعتماد سعر صرف السوق الفعلي لإعداد الميزانيّات في ذلك الشهر بالذات، بدل سعر 15 ألف ليرة للدولار، المُعتمد منذ شهر شباط السابق. ومرّة جديدة: الزيادة في صافي الموجودات الخارجيّة غير قائمة فعلًا إلّا على الدفاتر، وفي مخيّلة كتبة التقارير.
على أي حال، من المهم الإشارة هنا إلى أنّ هذه الزيادة الوهميّة في فوائض الموجودات الخارجيّة، تترك أثرها تلقائيًا على أرقام ميزان المدفوعات. إذ بحسب منهجيّة مصرف لبنان المتبعة حاليًا، يتم احتساب هذا المؤشّر من خلال رصد تغيّر صافي الموجودات الخارجيّة للقطاع المصرفي بأسره، بما يشمل مصرف لبنان والمصارف التجاريّة. وهذا ما يجعل أرقام ميزان المدفوعات مخادعة بالشكل نفسه، كما أوضحنا في عدّة مقالات سابقة.
مصادر أخرى للزيادة في صافي الموجودات
هكذا، يتضح أنّ الغالبيّة الساحقة من هذه الزيادات في صافي الموجودات الخارجيّة لم تكن سوى نتيجة انخفاض دفتري ومحاسبي في قيمة الإلتزامات بالليرة. وهو ما يعني أنّ المصارف لم تشهد أي زيادة فعليّة في سيولتها خلال تلك الفترة. ومع ذلك، ينبغي الإشارة إلى مصدر آخر لزيادة صافي الموجودات الخارجيّة، وإن كان هذا المصدر أقلّ أثرًا وحجمًا بكثير من عامل تغيير سعر الصرف.
خلال السنوات الماضية، كانت المصارف تزيد من إجمالي الودائع “الجديدة” وفقًا لتصنيف مصرف لبنان، أي حسابات الدولار الطازج أو “الفريش”. وهذه الزيادات، كان يقابلها زيادة في السيولة الموجودة لدى المصارف المراسلة في الخارج. وعلى هذه النحو، كانت قيمة الموجودات في الخارج ترتفع، بفعل زيادة الأرصدة لدى المصارف المراسلة، بينما لم تدخل إلتزامات المصارف للمودعين -بالدولار “الفريش”- ضمن حِسبة صافي الموجودات الخارجيّة.
هذا التطوّر الذي حسّن أرقام الموجودات الخارجيّة، لم يعكس أي تحسّن فعلي في سيولة المصارف، لكون الأرصدة الجديدة في المصارف المُراسلة مربوطة بإلتزامات لأصحاب الودائع “الفريش”.
في النتيجة، وتمامًا مثل الكثير من المؤشّرات الأخرى التي يتم استعراضها حاليًا، ثمّة مبالغة -وربما خداع- في عرض زيادة صافي الموجودات الخارجيّة على أنّها إنجاز أو تحسّن جدّي في أرقام القطاع. ببساطة شديدة: هذا القطاع لن يخلق دولارات من العدم. وكتلة الخسائر الموجودة، ستبقى موجودة وعلى حالها، بانتظار عمليّة إعادة الهيكلة الشاملة، التي يفترض أن تعيد الانتظام للقطاع المصرفي.
أمّا الأرقام والتقارير المفرطة بالتفاؤل، فبإمكانها أن تملأ الوقت الضائع، ولكنّها لن تملأ الفجوة الماليّة.