يُنقل عن الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول عبارة شهيرة، مفادها أنّ “القبور مليئة بالرجال الذين لا يمكن الاستغناء عنهم”، في إشارة إلى بلاهة الاعتقاد بأنّ أحدًا ما مهما علا شأنه، يمكن أن يصل إلى مرتبة الشخص الذين يستحيل استبداله. قد يكون الساسة اللبنانيون بأمسّ الحاجة اليوم إلى تذكّر هذه العبارة بالذات، عند مناقشة مصير حاكميّة مصرف لبنان بعد نهاية شهر تمّوز المقبل، أي بعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان.
ففي الوقت الذي باتت فيه البلاد بأمسّ الحاجة لطوي صفحة هذا الرجل، ما زالت نقاشات المسؤولين أسيرة الاعتقاد، أو ربما الادعاء الكاذب والمخادع، بأنّ الحاكم ما زال حاجة لا يمكن تخطّيها في الوقت الراهن. ولذلك، ما زالت السيناريوهات الأكثر ترجيحًا اليوم، تدور في فلك إعطاء سلامة دوراً ما بعد نهاية شهر تمّوز. ربما لهذا السبب بالذات، يفترض أن يسأل اللبنانيون عن الدور الذي يؤدّيه الرجل في هذه المرحلة، حتّى يعتقد كبار الساسة اللبنانيون بأنّه فعلًا الرجل الذي لا يمكن الاستغناء عنه. أو بعبارات أوضح: من هي الفئة التي يعمل لأجلها سلامة، والتي باتت ترى فيه هذا الشخص الذي لا يجب إخراجه من المعادلة؟
سيناريوهات ما بعد نهاية تمّوز
داخل المصرف المركزي، دورة الحياة توحي بأن الحاكم في طريقه لتطبيق المادّة 25 من قانون النقد والتسليف، التي تنص على تولّي النائب الأوّل مهام الحاكم بمجرّد شغور منصب الحاكم، ريثما يتم تعيين حاكم جديد.
وعلى هذا الأساس، يعطي سلامة الانطباع بأنّ ما يجري حاليًا هو تنسيق يومي ومدروس داخل المصرف، بهدف نقل صلاحيّاته إلى نائبه الأوّل وسيم منصوري، بما فيها تلك التي تُعنى بإصدار التعاميم ومتابعة سوق القطع وتتبّع وضعيّة المصارف وموازناتها والتصرّف بالاحتياطات. وفي الوقت نفسه، يصرّ سائر أعضاء المجلس المركزي على التأكيد على استعدادهم لمواكبة منصوري في هذه المهمّة، وتغطية قرارته من خلال اجتماعات المجلس الدوريّة.
لكن خارج أروقة المصرف، وبين المرجعيات السياسيّة المؤثّرة في هذا الملف، يدور الحديث عن سيناريوهات مختلفة تمامًا، وجميعها تصب في خانة الإبقاء على دور ما لحاكم مصرف لبنان بعد نهاية ولايته. وهذه النقاشات تتكامل بدورها مع التسريبات الإعلاميّة المتكرّرة، التي تهوّل من إمكانيّة انفلات الوضع النقدي، بمجرّد خروج الحاكم من سدّة الحاكميّة، بالنظر إلى الخيوط التي يتحكّم بها في السوق الموازية، والخبرة التي راكمها في إدارة عمليّة منصّة صيرفة في هذه السوق.
السيناريو الأوّل المطروح اليوم، يقوم على استقالة النائب الأوّل لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري قبل نهاية شهر تمّوز، أو اعتكافه عن ممارسة صلاحيّاته بحجّة ما، وبإيعاز من مرجعيّته السياسيّة، أي رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي. وفي هذه الحال، سيستحيل تطبيق المادّة 25 من قانون النقد والتسليف، التي لا تنص على ما يجب فعله في حال شغور منصبي الحاكم والنائب الأوّل معًا. مع العلم أنّ المادّة 27 تنص على إمكانيّة تسلّم نائب الحاكم الثاني مهام الحاكميّة، لكن في حال غياب أو تعذّر وجود الحاكم والنائب الأوّل، وليس في حالة الشغور في منصبيهما.
في هذه الحالة، سيكون النائب الأوّل قد خلق إشكاليّة قانونيّة تفرض احتمال الشغور الكامل في منصب الحاكميّة، ما سيفرض عندها على مجلس الوزراء البحث في خيارات أخرى، مثل التمديد المؤقّت لسلامة، إلى حين انتخاب رئيس للجمهوريّة وتعيين حاكم جديد بولاية كاملة. وتحقيق هذا السيناريو، سيحتاج إلى خطوة مباغتة وسريعة من جانب منصوري في اللحظات الأخيرة، ما يعني أنّ التيقّن من عدم حصول هذا الاحتمال غير ممكن قبل انقضاء اللحظات الأخيرة من ولاية سلامة.
السيناريو الثاني، الأكثر عقلانيّة، سيتمثّل في احتفاظ سلامة بالمهام التي يقوم بها في العادة بعد انتهاء ولايته، إنما بصفة مستشار أوّل وبدور تنفيذي بارز، تمامًا كحال ماريان الحويّك اليوم، فيما سيحتفظ النائب الأوّل للحاكم بصلاحيّة التوقيع بصفته المكلّف بمهام الحاكم بحسب المادّة 25 من قانون النقد والتسليف.
الإشكاليّة هنا، ستكمن في تحميل النائب الأوّل مسؤوليّة القرارات والخطوات التي يقوم بها سلامة في المصرف ابتداءً من نهاية تمّوز. إلا أنّ هذا السيناريو سيمكّن الرئيسين برّي وميقاتي من الإبقاء على الأدوار التي يقوم بها سلامة، من دون اتخاذ قرار واضح وصريح بالتمديد له في مجلس الوزراء.
أخيرًا، يبقى الاحتمال الطبيعي حسب القانون، وهو تسليم مهام الحاكميّة بشكل كامل للنائب الأوّل، بمواكبة من المجلس المركزي للمصرف، والذي يتكوّن من نوّاب الحاكم الأربعة ومديري وزارتي الماليّة والاقتصاد (منصب المدير العام لوزير الماليّة شاغر حاليًا). مع الإشارة إلى أنّ هذا السيناريو سيضمن لبرّي صوتين من أصل ستّة داخل المجلس المركزي خلال الفترة المقبلة، إذ تمثّل عين التينة المرجعيّة السياسيّة الأساسيّة لمدير عام وزارة الاقتصاد.
الأدوار التي تجعل سلامة “لا يُستغنى عنه”
للنظر في أسباب تمسّك المنظومة السياسيّة بحاكم مصرف لبنان، رغم الإحراج الذي تسببه الملاحقات القضائيّة الجارية بحقّه في أوروبا، يكفي البحث في الأدوار التي يقوم بها الحاكم حاليًا.
فسلامة ما زال حتّى اللحظة يهندس الميزانيّة العامّة للمصرف المركزي، بما يسمح بالتلاعب بحجم الخسائر المقدّرة فيها، من خلال أسعار الصرف التي يعتمدها للتصريح عن أرقام الميزانيّة. كما يستمر حتّى اللحظة الرجل بإعادة هيكلة الميزانيّة، لقيد خسائر المصارف التاريخيّة كديون على الشعب اللبناني، عبر تصنيفها كدين عام، وبألاعيب تخالف جميع بنود قانون النقد والتسليف (راجع المدن).
وهذا النوع من التحايل الجرمي، الذي يفترض أن يحمّل صاحبه مسؤوليّة جزائيّة تاريخيّة، لا يمكن أن يتم إلا على يد متّهم ومطلوب دولي لا يملك شيئًا ليخسره. وأي حاكم جديد للمصرف، إذا ما امتلك خلفيّة تقنيّة جديّة، قد لا يوافق على إقحام نفسه بهذا النوع من المجازفات.
وحتّى اللحظة، من الواضح أنّ الحاكم لم ينه مهمّة التلاعب بأرقام الميزانيّة وتوزيع الخسائر على الشعب اللبناني. إذ مع استمرار عمليّات منصّة صيرفة، تستمر حتّى اللحظة الخسائر بالتراكم في ميزانيّة المصرف، وهو ما يفرض اعتماد معايير محاسبيّة غير تقليديّة (أو بالأحرى احتياليّة)، لتحميلها للشعب اللبناني. ومن المعروف أن منصّة صيرفة، وسعر الصرف المعتمد فيها، ما زالا حتّى اللحظة خارج أي غطاء قانوني، ما يفرض البحث عن خزعبلات محاسبيّة هجينة للتعامل مع الخسائر الناتجة عن عمليّات قطع المنصّة.
في خلاصة الأمر، إذا كان المطلوب تقييم المسألة من زاوية مصلحة الشعب اللبناني، فالمطلوب الاستغناء عن حاكم مصرف لبنان والتخلّص من أدواته المعتمدة لإدارة السياسة النقديّة. أمّا إذا المطلوب البحث عن الشخصيّة التي يمكن أن توافق على استكمال العمل بخطّة الظل، أي الخطة التي تحمّل عموم اللبنانيين خسائر الانهيار الحاصل، فرياض سلامة هو الشخصيّة الأنسب والأفضل للعب هذا الدور. ربما لهذا السبب، ثمّة حاجة اليوم للبحث عن قوّة مجتمعيّة وسياسيّة تملك أولويّة العمل لتحقيق هدف بسيط جدًا: تطبيق قانون النقد والتسليف، والاستغناء عن رياض سلامة فورًا.