يستمر مصرف لبنان بعد أكثر من ثلاث سنوات على تفرده بادارة الأزمة بالتعاميم، بقول الشيء ونقيضه. فالتعاميم التي أعطت الليرة قوة إبراء غير محدودة لتسديد الودائع بالدولار وحماية المصارف من الإفلاس، هي نفسها التي منعت غير المقيمين من تسديد قروضهم بالعملة الوطنية على غرار أترابهم من المقيمين. أمّا العذر الذي يعطى بإمكانية الدفع بالليرة بحسب سعر صرف السوق الموازية، فهو “أقبح من ذنب”. ذلك أنه يقود إلى التمييز بين المواطنين بما يُناقض مقدمة الدستور، ويُشرّع الاعتراف بالسوق السوداء، ويحجّم دور “صيرفة”، المنشأة أساساً بحجة الوصول إلى سعر واحد للصرف.
تخالف قانون الموجبات والعقود
“بعيداً عن التفكير النمطي الذي ينتهجه المصرف المركزي، والتعميم بان غير المقيمين مقتدرون حكماً، وبإمكانهم تسديد القروض بالدولار النقدي، فان القرار يشكل مخالفة صارخة للدستور ولأصول إبرام العقود والاتفاقيات”، تقول المحامية في رابطة المودعين دينا أبو الزور. و”قد عكس المركزي من خلال تعاميمه وقراراته، التي غالباً ما تصدر عن الحاكم منفرداً، أبسط قواعد قانون الموجبات والعقود. فالقرض هو دين، والدين يمكن إرجاعه بالعملة اللبنانية، أو بما يوازيها بحسب سعر الصرف الرسمي. أمّا الوديعة فهي تمثل عقداً بين طرفين يتوجب على المصرف إعادتها بنفس عملة الايداع”. كما أنه لا يوجد جملة في العقود المبرمة بين المودعين والمصارف تسمح للأخيرة باستبدال الدولار الأميركي بالليرة أو بأي عملة أخرى. وكل ما ارتكزت عليه المصارف سابقاً بتسديد ودائع الدولار بالليرة اللبنانية، وسترتكز عليه في المستقبل القريب على أساس سعر الصرف الجديد، هو جملة قالها حاكم المصرف المركزي رياض سلامة خلال مقابلة تلفزيونية في كانون الثاني 2022، هي: ” إن المصارف غير مجبرة على إعطاء الدولار للزبائن”. وعلى الرغم من عدم تصريحه رسمياً بأن الحسابات بالدولار ستتحول تلقائياً إلى الليرة، فان إطلاق الضوء الأخضر لليلرة الودائع بدأ بشكل شبه كلي، باستثناء التعميم 158 منه، وسيستمر على ما يبدو لوقت طويل”.
إجتهادات المصارف “تزيد الطين بلّة”
التمييز بين المقيمين وغير المقيمين يعود بشكل أساسي إلى التعميم الاساسي رقم 24 الموجه إلى المصارف والمؤسسات المالية في 17 أيار 1996. والمتعلق بالتصريح بالنسبة لحسابات الودائع. حيث طلب المركزي من البنوك تصنيف عملائها بين “مقيم” و”غير مقيم”، والعمل دورياً على مراقبة كل تغيير يطرأ على هذا التصنيف. و”مع مطلع الأزمة صدر تعميم وسيط حمل الرقم 860 ألزم المصارف بتقاضي سندات قروض التجزئة على سعر الصرف الرسمي 1507″، بحسب خبير المخاطر المصرفية د. محمد فحيلي. و”من ثم عاد ليميز في التعميم الوسيط رقم 656 بين المقيم وغير المقيم”.
هذا التمييز سمح للمصارف في سنوات الأزمة الاجتهاد في تصنيف المودعين والمقترضين. فقد اعتبر بعضها غير المقيم هو كل من يملك مصدر إيرادات بالعملة الأجنبية من خارج لبنان. وعلى هذا الأساس مثلاً عمد أحد أكبر المصارف اللبنانية من فئة “ألفا”، إلى إلزام عميل مقيم بدفع سندات قرض الاسكان بعملة القرض فور معرفته بتلقيه تحويلات بالعملة الأجنبية من بريطانيا. وقد وافق المصرف بعد التفاوض على تسديد كامل المبلغ بشيك مصرفي، أي على سعر 8000 ليرة للدولار.
من جهة ثانية يُصنف مقيماً، حامل الجنسية الأجنبية الذي يفتح حساباً أو يأخذ قرضاً بناء على الهوية اللبنانية ومقابل ضمانات عقارية داخلية. لكن المصارف ترفض اعتباره مقيماً حالما تتأكد من امتلاكه مصادر ايرادات من الخارج، بحسب فحيلي. “وهي ترفض طلبات تسديد قروض التجزئة كاملة على أساس سعر الصرف الرسمي ومنها بشكل أساسي القروض المتعلقة بتسديد ديون على بطاقات الائتمان. إذ من وجهة نظر المصارف فان معظم هذه الديون استعملت لتمويل مصاريف تشغيلية في الخارج، ويجب تسديدها بحسب عملة القرض”.
التسديد بعملة الإقتراض ينعش الإقتصاد
خلافا لآراء بعض القانونيين، يعتبر فحيلي أن “القروض يجب أن تسدد بنفس عملة القرض. والدلالة على ذلك أنه قبل اندلاع الأزمة كانت البنوك تجري عمليتين مصرفيتين عند كل تسديد بالليرة لقرض بالدولار. العملية الاولى يبيع فيها المصرف الدولار على السعر الرسمي، والثانية يحسم منها قيمة السند المسدد. واليوم تجري المصارف العملية نفسها ولو باسعار صرف مختلفة”. ومن حيث المنطق الاقتصادي فان عدم تأمين الضمانات القانونية للجهات المقرضة بالزام المقترضين بالعملات الأجنبية تسديد الديون بنفس عملة القرض، سيُبقي الاقتصاد معطلاً. فبعض المصارف المحلية والكثير من المؤسسات الدولية يهمها الانفتاح على السوق اللبناني واعطاء تسهيلات مصرفية وقروض مختلفة، لكنها تخشى من عدم تسديد المقترضين على السعر الحقيقي نظراً لعدم وجود قانون يلزم بذلك. ولا سيما مع الإبقاء على 1500 ليرة كسعر صرف رسمي مؤكد عليه في العديد من القوانين الصادرة ومنها قانون الدولار الطالبي”.
السعر الرسمي 1500 ليرة
مخاوف الجهات المقرضة من إمكانية التسديد على سعر الصرف البائد 1500 ليرة، تؤكدها عمليات تسديد القروض بواسطة “العرض والايداع” لدى الكاتب العدل على أساس سعر الصرف الرسمي. فـ”طالما لا يوجد تشريع واضح يحدد سعر صرف الليرة مقابل الدولار بشكل رسمي، فان السعر الرسمي هو 1500 ليرة”، تقول أبو الزور. و”يحق لأي مقترض سواء كان مقيما أو غير مقيم، تسديد دينه على هذا السعر. وقد نجحنا كرابطة مودعين طيلة الفترة الماضية في تسكير الكثير من القروض على أساس هذه المعادلة. ولا سميا مع صدور العديد من القرارات عن دوائر التنفيذ القضائية تشير إلى عدم شرعية تعاميم حاكم مصرف لبنان، وبأنها مجرد قرارات إدارية غير ملزمة. وفيما يتعلق بالدعاوى العالقة التي لم يبت بها بعد، فان المصارف حاولت المماطلة قدر الامكان لصدور التعاميم المعدلة لسعر الصرف من أجل تحصيلها رجعياً على أساس 15 الف ليرة. ونحن بانتظار القرارت القضائية التي ستصدر في هذا الصدد”.
تحرير سعر الصرف
هذا الواقع يقودنا إلى الاعتقاد بأن “تصحيح الوضع النقدي لن يستقيم إلا بتحرير سعر الصرف” من وجهة نظر فحيلي. عندها تسترد الودائع بقيمتها الحقيقية وتسدد القروض أيضاً بقيمتها الفعلية. وهذه المسؤولية ملقاة أولاً على عاتق السلطتين التشريعة والمالية. وما تدخل مصرف لبنان إلا لتعبئة الفراغ نتيجة العجز عن اتخاذ القرار المناسب. وهذا ما يظهر بشكل واضح في عنونة أغلب التعاميم والقرارات بعبارة “إجراءات إستثنائية”.
المقيم وغير المقيم
بحسب التصنيف يعتبر من المقيمين:
– موظفو القطاع العام.
– الاشخاص من الجنسية اللبنانية أو الأجنبية الذين يعملون بشكل متواصل في لبنان لمدة سنة على الأقل أينما كان مركز إقامتهم الرئيسي.
– الاشخاص المقيمون في لبنان ويعملون بشكل متقطع في الخارج لمدة أقل من سنة.
– اللبنانيون أعضاء السلك الدبلوماسي والموظفون في السفارات في الخارج.
– اللبنانيون المتعاقدون مع السفارات والقنصليات الأجنبية أو المنظمات الدولية في لبنان.
أما غير المقيمين فهم:
– اللبنانيون والأجانب الذين يعملون بشكل متواصل في الخارج لمدة سنة على الأقل.
– الأشخاص الذين يتواجد مركز إقامتهم في الخارج ويعملون بشكل متقطع في لبنان لمدة أقل من سنة.
– الأجانب الذين يتواجد مركز اقامتهم الرئيسي في الخارج والموجودون في لبنان للدراسة أو للطبابة مهما طالت مدة إقامتهم.
– أعضاء السلك الدبلوماسي الأجنبي والموظفون الرسميون في السفارات والمصالح الاجنبية في لبنان والمنظمات الدولية.