ارتفعت أسعار فائدة الانتربنك أو الإقراض اليومي بين المصارف بالليرة اللبنانية، إلى أكثر من 140% بعدما استقرّت عند 2% في الأشهر الماضية. وسعر هذه الفائدة هو مؤشّر عن أوضاع السيولة وآليات عمل المصارف وأولوياتها، إذ نتج ارتفاع سعر فائدة الانتربنك من مجموعة عوامل؛ أبرزها احتفاظ المصارف بكميات من الدولارات النقدية في محافظها بدلاً من تحويلها إلى ليرات، وهو ما يشير إلى أنها تراهن أو تحاول المشاركة في لعبة إسقاط سعر الصرف، بالإضافة إلى وجود طلب كبير من المودعين لتسييل ودائعهم وفق سعر صرف للدولار الواحد يساوي 15 ألف ليرة.وقالت مصادر مصرفية إن عدداً محدوداً من المصارف لديه السيولة اللازمة للإقراض في السوق، فيما تعاني سائر المصارف من شحّ في السيولة يفرض عليها الاقتراض من المصارف التي تملك فائض السيولة. وتحتاج المصارف إلى السيولة من أجل تمويل العمليات الجارية الناتجة من التزاماتها تجاه المودعين بشكل أساسي. إن متطلبات الحرب عند الأسر اللبنانية، وخصوصاً النازحة، تفرض عليها تسييل جزء من الودائع بأي ثمن مقابل الحصول على السيولة لتغطية الحاجات الأساسية. المفارقة أنه في السابق، كانت المصارف تستعمل سيولتها بالعملة الأجنبية لتمويل حاجاتها إلى السيولة بالليرة، أي أنها كانت تحوّل الدولارات إلى ليرات. لكنها في الأشهر الماضية، بدأت تستعمل هذه السيولة من أجل تمويل التزاماتها تجاه تطبيق التعميمين 158 و166، وبالتالي هي تحتفظ بهذه السيولة من دون أن تحسب حساباً للطلب الناتج من المودعين على سحب ودائعهم بالليرة.
وسبب الطلب على السيولة بالليرة في السوق، يعود إلى ارتفاع في نسب التركّز السكاني في بيروت وجبل لبنان، وهو ما يعكس تركّزاً في الطلب الاستهلاكي بشكل عام أيضاً، يضاف إليه الطلب المرتبط بحاجات الإيواء والنزوح. وبحسب مصادر مطلعة، فإن حجم الطلب الناتج من سحب الودائع على سعر صرف يبلغ 15 ألف ليرة للدولار، لا يتجاوز 450 مليون دولار، أو ما يوازي عملياً 6000 مليار ليرة، لكن المصارف ترفض التخلّي عن سيولتها بالعملة الأجنبية من أجل تلبية حاجات المودعين بالليرة، علماً أن سحب الودائع بالليرة وفق سعر صرف يساوي 17% من سعر الصرف الفعلي في السوق، يؤدي إلى خسائر في قيمة الوديعة تساوي 74500 ليرة في الدولار الواحد. فالمصارف ما زالت تسعّر الدولار المحجوز بطريقة غير شرعية لديها، بقيمة 15 الف ليرة من دون أي موجب أو سند قانوني، بينما مصرف لبنان فرض عليها أن تسجّل كل دولار في ميزانياتها بقيمة 89500 ليرة. بمعنى أوضح، إن المصارف تربح من سحب كل دولار نحو 74500 ليرة، وهو المبلغ نفسه الذي يخسره المودع مقابل كل دولار أيضاً. صحيح أن هذا الربح ما زال دفترياً، أي أنه ليس محققاً فعلياً، لكن حتى الآن لم يصر إلى معالجة هذه الفروقات، إذ يواصل مصرف لبنان التعامل معها بوصفها ظاهرة محاسبية، بينما الواقع أنها خسائر فعلية يتكبدها المودعون من مدخراتهم التي لا وصول لهم إليها، سواء شطبت محاسبياً من ميزانيات المصارف أو سجّلت أرباحاً دفترية.
مقرّبون من منصوري: لدى مصرف لبنان احتياط صافٍ بـ 2 مليار دولار
يحصل هذا الأمر في سياق سياسة تنشيف السيولة التي يعتمدها مصرف لبنان منذ سنة ونصف سنة تقريباً والقائمة على سحب كميات كبيرة من السيولة بالليرة من السوق لتقليص الطلب على الدولار، وبالتالي تهدئة تقلبات سعر الصرف والحدّ من مساره الارتفاعي الذي بدأ في منتصف 2019 واستمر لغاية الفصل الأول من 2023. والكمية الموضوعة قيد التداول بلغت في نهاية أيلول 53462 مليار ليرة، أي ما يعادل 597 مليون دولار. أما الكميات المقابلة لها بالدولار الأميركي فهي كبيرة جداً، إذ إن مصرف لبنان وحده ضخّ نحو 420 مليون دولار في أول يومين من الشهر الجاري على شكل دفعتين إضافيتين من موجبات التعميم 158 و166، وتحويل رواتب وأجور العاملين في القطاع العام إلى دولارات. يقول مقرّبون من حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، إن هذه السياسة التي انتهجها مصرف لبنان منذ أكثر من سنة «لا تبني اقتصاداً، لكن ليست وظيفة المصرف المركزي التدخّل في الاقتصاد، بل يجب عليه أن يرسم سياسة نقدية متوافقة مع السياسة المالية التي تحدّدها الحكومة. وفي هذا الإطار، اتفق مصرف لبنان مع الحكومة ووزارة المال على إدارة الكتل النقدية بشكل متوازن ومن خلالها أقرّت آلية لا يكون فيها مصرف لبنان منافساً للقطاع الخاص على السيولة بالعملة الأجنبية (يعرض المصرف المركزي الليرات في السوق ولا يعرض الدولارات)، بينما ترتب على الحكومة أن تتوازن في نفقاتها ولا تخلق عجزاً في المالية العامة وتحافظ على وتيرة الجباية بالليرة اللبنانية. تنفيذ هذا الاتفاق في الفترة الماضية أدّى إلى فائض في الميزان المالي الأولي لدى الحكومة، فضلاً عن فائض في ميزان المدفوعات تمكّن مصرف لبنان من استقطابه بالكامل لتكوين احتياطات بالعملة الأجنبية بقيمة تفوق 2 مليار دولار، خارج إطار الاحتياطات الإلزامية التي تصنّف باعتبارها أموالاً للمودعين». يدرك منصوري أن هذه السياسة لا تستهدف استقراراً اقتصادياً، إنما هدفها الاستقرار النقدي، ويدرك أيضاً أن لها تأثيرات واسعة على النشاط الاقتصادي، لكنه يرى أن معالجة هذا الأمر لا تتم إلا ضمن رؤية شاملة للأزمة ومعالجة مسألة الودائع والخسائر من خلال خطّة تترجم بقانون وبعدها يبدأ النقاش المرتبط بالتناغم بين السياسة المالية والنقدية في إطار أهداف اقتصادية.
المشكلة أن لبنان يخوض اليوم معركة صمود بوجه العدوان الإسرائيلي، وهذا يتطلب المزيد من الاستقرار في سعر الصرف، ولا سيما لأولئك الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة وهم في غالبيتهم يعملون في القطاع العام، وأولئك الذين يسحبون ودائعهم وفق سعر صرف يبلغ 15 ألف ليرة. لذا، عمد المصرف المركزي إلى ضخّ أكثر من 420 مليون دولار في السوق من خلال تسديد رواتب العاملين في القطاع العام بالدولار النقدي، ومنح المودعين المسجلين بموجب التعميمين 158 و166 دفعتين إضافيتين. هذا الأمر يضمن استقراراً ما مدعوماً باحتياطات تفوق 2 مليار دولار. إلا أن استقراراً كهذا يبقى هشّاً طالما أن الحرب قائمة وتفرض على الحكومة الإنفاق، رغم كل تقشّفها ورغبة رئيس الحكومة في الإمساك بقبضة من حديد على أيّ نفقات، فضلاً عن أن مفاعيل الأزمة النقدية والمصرفية لا تزال مستمرّة لغاية اليوم.