تصاعدت المخاوف بشأن الاستقرار المالي العالمي، بالتزامن مع الارتفاع القياسي للديون والتوقعات باستمرار معدلات الفائدة المرتفعة لفترة أطول. وساهم ارتفاع تكاليف الاقتراض الحكومية في إعادة القلق بشأن حدوث أزمة مالية إلى صدارة المشهد العالمي مجدداً.
إرتفاع قياسي للديون
وصل الدين العالمي لمستوى قياسي جديد عند 307 تريليونات دولار بنهاية شهر حزيران الماضي. الدين العالمي ارتفع بنحو 10 تريليونات دولار في النصف الأول من العام الحالي مقارنة بمستويات الربع الثاني من العام الماضي عند 297.2 تريليون دولار.
وصل الدين في الأسواق المتقدمة إلى 207 تريليونات دولار بنهاية الربع الثاني من هذا العام، بزيادة 7.6 تريليونات دولار على أساس سنوي 80% من الزيادة في قيمة الدين العالمي جاءت من الاقتصادات المتقدمة، حيث قادت الولايات المتحدة واليابان والمملكة المتحدة وفرنسا وتيرة الصعود. بينما تركزت زيادة الديون في الأسواق الناشئة في دول الصين والهند والبرازيل. بلغت ديون الأسواق الناشئة 100 تريليون دولار حتى نهاية الربع الثاني من العام الجاري، صعوداً من 97.8 تريليون دولار في نفس الفترة من 2022.
تعتبر مستويات الدين العالمي الحالية أعلى بنحو 100 تريليون دولار مما كانت عليه قبل عقد مضى. عاود معدل الدين العالمي نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي اتجاهه الصاعد في الربعين الأول والثاني من هذا العام، بعد أن تراجع لمدة 7 فصول متتالية. وصل معدل الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 336% مقابل 334% في الربع الأخير من العام الماضي.
قال «كلاوديو بوريو» رئيس الإدارة النقدية والاقتصادية في بنك التسويات الدولية إنه على المدى الطويل، تشكل مسارات الديون الحكومية أكبر تهديد على الاستقرار الاقتصادي والمالي.
عوامل وراء قفزة الدين
تسبب الصعود السريع والقوي لمعدلات التضخم حول العالم في التراجع الحاد لمعدل الدين إلى الناتج المحلي العالمي في العامين الماضيين. سمح تسارع التضخم للحكومات العالمية والشركات بخفض التزاماتها بالعملات المحلية عبر مستويات التضخم المرتفعة. لكن تباطؤ صعود الأجور وضغوط الأسعار ساهم في عودة الاتجاه الصاعد لمعدل الدين نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. ويتوقع معهد التمويل الدولي ارتفاع معدل الدين إلى الناتج المحلي العالمي أعلى 337% بحلول نهاية العام الجاري.
كما رفعت حكومات بعض الدول إنفاقها للمساعدة في دعم الأسر في مواجهة ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة. ساهم العجز المالي الكبير في إبقاء مستويات الدين العام عند مستويات مرتفعة، مع اتجاه الكثير من الحكومات لدعم النمو الاقتصادي.
بالإضافة إلى ارتفاع العجز وعبء الديون، تسبب رفع البنوك المركزية العالمية لمعدلات الفائدة بشكل حاد في العامين الماضيين في رفع تكلفة الاقتراض وزيادة العجز. قالت «صوفيا دروسوس» الاقتصادية في صندوق التحوط «بوينت 72 أسيت مانجمنت»، إن ارتفاع احتياجات التمويل وإنهاء الدعم من جانب البنوك المركزية يزيدان من عدم اليقين بشأن التسعير للمستثمرين.
مخاطر متصاعدة للإقتصادات الكبرى
تشهد اقتصادات متقدمة عديدة مخاطر متصاعدة متعلقة بحجم العجز المالي وارتفاع عبء الديون. يعتقد «راي داليو» مؤسس صندوق «بريدج ووتر أسوسيتس» أن الولايات المتحدة ستشهد أزمة الديون، بفعل الوضع المالي الخطير. ارتفعت مدفوعات الفائدة السنوية على الديون الحكومية الأميركية إلى أكثر من تريليون دولار بنهاية شهر تشرين الاول الماضي، ما يعادل نحو 16% من حجم الموازنة الفيدرالية للعام المالي 2022.
تضاعف حجم مدفوعات فوائد الديون الحكومية الأميركية خلال التسعة عشر شهراً الماضية، مع رفع معدلات الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي من صفر في مارس 2022 إلى نطاق 5.25% و5.5% حالياً. يتسبب ارتفاع فوائد الديون في زيادة عجز الموازنة الأميركية، والذي وصل في العام المالي المنتهي في ايلول الماضي إلى 1.7 تريليون دولار، بزيادة 23% عن العام المالي السابق له. اقتربت الولايات المتحدة مؤخراً من حافة التعثر عن سداد الديون، بسبب الخلافات السياسية في الكونغرس، ومع استمرار صعود الدين الوطني إلى 33.7 تريليون دولار. خفضت وكالة «فيتش» في شهر آب الماضي تصنيفها الائتماني للولايات المتحدة، بفعل تدهور المالية العامة وارتفاع عبء الديون.
في أوروبا، تمثل ديون إيطاليا البالغة 2.4 تريليون دولار محور التركيز المتعلق بالوضع المالي في القارة العجوز. قفزت علاوة مخاطر الديون الإيطالية مع خفض توقعات النمو الاقتصادي وزيادة توقعات عجز الميزانية. تثير احتمالية خسارة إيطاليا لتصنيفها الائتماني من الدرجة الاستثمارية نقطة تحول محتملة لديون الدولة الأوروبية، حيث إن وكالة «موديز» تضع تصنيف روما أعلى من «الخردة» بدرجة واحدة مع نظرة مستقبلية سلبية.
في بريطانيا، يتواصل القلق حيال الدين العام والذي يتجاوز حاجز 100% من الناتج المحلي. يتوقع مكتب مسؤولية الموازنة البريطانية وصول تكلفة فوائد الديون إلى 7.8% من الإيرادات بحلول عام (2027 – 2028)، مقابل 3.1% في (2020 – 2021). كما شهدت ألمانيا ارتفاع الإنفاق على فوائد الديون بنحو 10 أمثال منذ عام 2021 ليصل إلى 40 مليار يورو، وسط مخاوف كبيرة متعلقة بالموازنة.
أزمة صامتة؟
تواجه دول نامية صغيرة عديدة أزمات مالية، مع تداعيات ارتفاع معدلات الفائدة الأميركية على مواردها المحدودة بالفعل.
حذر البنك الدولي من معاناة ديون الأسواق الناشئة بالعملة الأجنبية للتعافي، مع رهان المستثمرين على أن تكاليف الاقتراض ستظل مرتفعة لفترة أطول. ارتفعت نسبة البلدان الناشئة والنامية التي تزيد تكاليف اقتراضها بأكثر من 10% على نظيرتها الأميركية إلى 23%، مقابل أقل من 5% في عام 2019. إرتفعت مدفوعات فوائد الديون كنسبة من الإيرادات الحكومية لأعلى مستوى منذ عام 2010 على الأقل.
قال «أيهان كوس» نائب كبير الاقتصاديين في مجموعة البنك الدولي إن دورة تشديد السياسة النقدية كانت بمثابة كابوس للدول ذات الدخل المنخفض التي تعاني مستويات مرتفعة من الديون. اعتبر «كوس» أن التحديات التي تواجهها هذه الاقتصادات في ما يتعلق بالتزامات إعادة تمويل الديون تشير إلى أن هناك أزمة ديون صامتة تجري في الوقت الحالي.
تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن متوسط معدل الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الأسواق الناشئة والدول متوسطة الدخل يتجه إلى تجاوز 78% بحلول عام 2028 من 53% قبل عقد. تسبب ارتفاع عوائد السندات في تعثر دول مثل غانا وسريلانكا عن سداد ديونها، مع وجود دول أخرى على حافة الإفلاس.
الحاجة لحلول سريعة
من غير المتوقع أن تعاني الدول الكبرى لسداد ديونها، لكن يظل هناك حاجة للقيام بتدابير مالية تشمل رفع الضرائب ودعم النمو لتعزيز المالية العامة. قال «بيتر بريت» كبير الاقتصاديين السابق في البنك المركزي الأوروبي إنه في حين أن الديون لا تزال تبدو مستدامة فإن التوقعات مثيرة للقلق بالنظر إلى احتياجات الإنفاق على المدى الطويل. ذكر «بريت» أنه في حال النظر إلى العديد من الدول حالياً، فإن العالم لا يبدو بعيداً عن أزمة في المالية العامة. تحتاج الحكومات لاتخاذ تدابير عاجلة للمساعدة في الحد من نقاط الضعف المتعلقة بالديون. تبرز الحاجة إلى كفاءة الإنفاق والقيام بإصلاحات ودعم خطط النمو للسيطرة على أزمة الديون.
دعا صندوق النقد إلى بناء إطار مالي ذي مصداقية يمكن أن يوجه عملية تحقيق التوازن بين احتياجات الإنفاق والقدرة على تحمل الديون. بالنسبة للدول التي تمتلك ديوناً لا يمكن تحملها، هناك حاجة إلى نهج شامل يشمل الانضباط المالي وإعادة هيكلة الديون وفقاً للآلية متعددة الأطراف للإعفاء من الديون السيادية من مجموعة العشرين. شدد اقتصاديون على أنه لا بد من زيادة الضرائب، خاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا، بالإضافة إلى أن بعض التخفيضات في الإنفاق أمر لا مفر منه.
من شأن خفض أعباء الديون أن يؤدي إلى حيز مالي يسمح باستثمارات جديدة، ما يساعد على تعزيز النمو الاقتصادي في السنوات المقبلة. حذرت «كلير لومبارديلي» كبيرة الاقتصاديين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من أن التأخير في تنفيذ إصلاحات مالية يضر بقدرة الحكومات على معالجة الصدمات المستقبلية.
قال «موريتز كريمر» كبير الاقتصاديين في «إل بي بي دبليو» إنه في حال التحرك بنفس الوتيرة الحالية، فإن العالم سيشهد أزمة في العقد المقبل.