لم يكن ينقص مشهد الإضرابات العامة والتحذيرية في مؤسسات الدولة من إدارات عامة وبلديات ومصالح مستقلة إلا إضراب مصرف لبنان، لتكتمل مشهدية التعطيل. إلا أنه عكس موظفي الدولة المقهورين الذين يتقاضون 5 في المئة من قيمة رواتبهم، فان إضراب موظفي “المركزي” أتى لشعورهم بالاهانة من ملاحقة رئيسهم، والمس بكرامتهم وكرامة المؤسسة!
للمرة الثانية في غضون أقل من شهر يتوقف موظفو المركزي عن العمل. الاضراب التحذيري الاول كان في 28 حزيران الفائت لمدة يوم واحد فقط، وذلك “حرصاً على المصلحة العامة ولتأمين الرواتب والأجور للقطاع العام في آخر الشهر”، كما أفادت نقابتهم. أما الاضراب الثاني فسيمتد لمدة ثلاثة أيام ابتداء من يوم أمس الاربعاء ولغاية يوم غد الجمعة. وقد أتى بحسب نقابة الموظفين كرد على التصرفات التي مورست وشكلت تجنّياً وإفتراء على المؤسسة وموظفيها، بعد مداهمة المدعية العامة لجبل لبنان القاضية غادة عون المركزي لسوق الحاكم رياض سلامة إلى التحقيق. تاركة بحسب بيانها إتاحة الوقت للعقلاء للتدخل حمايةً للمؤسسة.
الإضراب كان ممنوعاً
لا يذكر خبير المخاطر المصرفية د.محمد فحيلي أن أضرب القطاع المصرفي في يوم طيلة الفترة الممتدة من العام 1995 وصولا حتى نهاية العام 2019. وذلك وقوفا عند رأي حاكمية مصرف لبنان التي كانت ترفض كل أشكال الاضرابات في القطاع المصرفي”. فمن الناحية الاجرائية كان القطاع المصرفي هو الذي يمشّي الدم في عروق الاقتصاد اللبناني، ولم يكن مسموحاً بايقاف الحياة وتعطيل الاعمال نتيجة اضرابات يكلف حلها، مهما كان الثمن كبيراً، أقل بكثير من تضرر الاقتصاد، وتوقف عشرات إن لم يكن مئات المصالح الشخصية والتجارية والانتاجية. هذا طبعاً عدا عن انعكاس الاضراب السيئ على سمعة لبنان في الخارج وعلاقات القطاع المصرفي مع المصارف المراسلة.
النتائج المباشرة للإضراب
اليوم اختلف الوضع كلياً. فرأس السلطة النقدية الغارق في سبع دول في العالم، والملاحق لبنانياً من قبل النيابة العامة التمييزية، بتهم الاختلاس، والتزوير والإثراء غير المشروع والتهرب الضريبي… لم يعد يخشى “بلل” تعطل الاقتصاد أولاً، وتأثر سمعة القطاع ثانياً. “إذ انه من المستحيل أن تضرب نقابة موظفي مصرف لبنان، التي تدين بالولاء المطلق للحاكم، من دون ضوء أخضر منه أو حتى طلب مباشر”، برأي فحيلي. وذلك من أجل رفع منسوب الضغط، وإثارة نقمة الشارع على ملاحقيه جراء التداعيات السلبية التي يمكن ان تنتج عن الاضراب المحدود. وما يمكن أن يتركه الاضراب العام المفتوح على الوضع الاقتصادي في حال استمرت الحملة التي تقودها ضده القاضية غادة عون بغطاء سياسي.
مما لا شك فيه أن توقف مصرف لبنان عن العمل جراء الاضراب الموقت، أو نتيجة لأي ظرف آخر، يؤدي إلى نتائج سلبية على الاوضاع النقدية المالية والاقتصادية وتوقف كل شيء له طابع إجرائي في مصرف لبنان”، بحسب فحيلي، “حيث يظهر أن الرقابة هي الغائب الاكبر عن السياسة النقدية”.
من الناحية النقدية سيؤدي الاضراب إلى:
– توقف العمل بمنصة صيرفة، مما يدفع التجار والمواطنين إلى التوجّه للسوق الموازية للحصول على الدولارات مقابل ما يملكونه من ليرات. الامر الذي قد يؤدي إلى زيادة الطلب على الدولار وبالتالي ارتفاع سعر الصرف.
– تعطل غرف المقاصة في مصرف لبنان وتوقف تسديد الشيكات بالليرة اللبنانية أو العملة الاجنبية.
– وقف كل أشكال الحوالات وفتح الاعتمادات.
– توقف كل الاجراءات المتعلقة باحكام التعميم 158 و151. حيث تستحصل المصارف يومياً بحسب فحيلي على النقود من مصرف لبنان.
من الناحية المالية:
– عدم القدرة على تسديد أوامر الدفع والحوالات الصادرة عن وزارة المالية. وهو الامر الذي يهدد بتوقف رواتب موظفي القطاع العام ومستحقات البلديات وغيرها الكثير في حال امتداد الاضراب وتحوله إضراباً مفتوحاً
من الناحية الاقتصادية:
– التوقف عن فتح الاعتمادات لاستيراد السلع التي ما زالت مدعومة وفي مقدمها البنزين. حيث من غير المستبعد أن تلجأ المحطات للتوقف عن التعبئة خصوصا في حال استشعر تجار النفط ارتفاعاً في الاسعار العالمية.
أما على صعيد عمل المصارف التي تحولت إلى صندوق للسحب بحسب التعاميم فان توقف مصرف لبنان عن العمل، سينعكس بشكل أساسي على سعر الصرف، إلا انه لن يكون التأثير الكبير من وجهة نظر فحيلي نظراً لمحدودية أيام الاضراب، وإن حصل تغير جوهري فسيكون برأيه متعمداً وليس بسبب الاضراب خصوصا أن عمليات التحويل عبر صيرفة تأخذ يومين بالحد الادنى.
فن الضغط
سياسة الضغط المبرمجة على السلطة السياسية وعلى أي جهة تعارض إجراءات المركزي، ليست غريبة عن “الحاكم” الذي يتقن فن الوصول إلى مآربه حتى لو كان الثمن موت الاقتصاد. ولعل المثال الابرز هو ما حصل قبل سنة من اليوم. حيث أبلغ الحاكم في مطلع حزيران 2021 المصارف بالتوقف عن تطبيق “التعميم 151” بعد إصدار مجلس شورى الدولة حكماً بعدم قانونية التعميم. ما عنى العودة إلى دفع ودائع الدولار على سعر 1500 ليرة، بدلا من 3900 ليرة، سعر منصة صيرفة آنذاك كون هذا هو السعر الرسمي. الامر الذي أثار سخط الشارع وأحدث موجة تدافع على المصارف للسحب بحسب التعميم قبل البدء بتنفيذ القرار. فما كان من رئيس الجمهورية إلا الدعوة لاجتماع طارئ جمع الحاكم مع رئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس، وتقرير عدم تبلغ الحاكم بالقرار وبالتالي استمرار العمل بالتعميم 151. مع العلم أن دفع الودائع على سعر صرف 3900 ليرة وقتها كان يقتطع من الودائع نحو 70 في المئة من قيمتها. فكرست أعلى المراجع السياسية مرة جديدة سلطة الحاكم المطلقة مطلقة يده في تحديد أسعار صرف على هواه بدلاً من الضغط عليه لتحرير سعر الصرف أو أقله توحيده.
مرة جديدة يلجأ الحاكم للعبة نفسها، ويكفي أن يصل سعر الصرف إلى 35 ألف ليرة حتى يرضى قسم كبير من اللبنانيين بوقف ملاحقة وتبييض صفحته لعودة الدولار إلى 29 ألفاً. إنها سياسة العصا والجزرة التي ما انفك حاكم مصرف لبنان يستعملها منذ بداية الازمة. سياسة لا تروض المواطنين إنما السلطة مجتمعة.