تشهد العديد من دول العالم تأثير جائحة كوفيد-19 وعدم عودة الحياة إلى طبيعتها بالكامل، بيد أن شركات ومؤسسات في العديد من الدول بدأت تخطط للمستقبل، إذ أعاد بعضها فتح المكاتب في ظل استعداد آخرين بخطط لإعادة الموظفين تدريجيا خلال الشهور المقبلة.
وتباينت وجهات النظر بشأن مستقبل العمل، فبينما تؤكد شركات، مثل غوغل، أن يإمكان موظفيها مواصلة العمل من منازلهم حتى منتصف 2021 على الأقل، يدعم آخرون فكرة استئناف العمل داخل المقار الرسمية للشركات مع اتخاذ إجراءات التطهير والتباعد الاجتماعي، في حين لا تتضح خطة العمل في المستقبل بالنسبة للبعض الآخر.
قد يجد كثيرون، بعد قضاء شهور من العمل في المنزل، صعوبة في العودة إلى بيئة العمل، وما يتطلبه ذلك من استخدام وسائل المواصلات.
وبينما يفضل كثيرون مواصلة العمل من المنزل لأسباب من بينها الصحة ورعاية الأطفال وموازنة متطلبات الحياة والعمل، يحرص آخرون على استئناف العمل من المكتب.
واستطلعت بي بي سي وورك-لايف آراء القراء في شتى أرجاء العالم بشأن هذه الفكرة.
“الحد الأقصى من معايير السلامة”
يعتقد موظفون، مهما اتخذت شركات من إجراءات سلامة، أن الخطر لا يزال محدقا في ظل اضطرارهم إلى استخدام وسائل مواصلات مكتظة بالركاب، فضلا عن تواصلهم مع آخرين داخل بيئة العمل، في المطبخ والحمام والمصعد وأشياء أخرى.
وتعرب بيثاني بايلي، من مانشستر في المملكة المتحدة، عن امتنانها لعدم عودتها حتى الآن إلى العمل في شركتها، إذ تقول: “رغم افتقادي لزملاء العمل والتفاعل اليومي إلا أنني لا أعتقد أن المواصلات العامة آمنة… الأمان غير متوفر في ظل وجود أشخاص داخل أماكن محدودة الحيز”.
وتقول هونغ تشين تشو، من العاصمة الصينية بكين، إن الشركة التي تعمل بها لم تسمح لموظفيها بالعمل من البيت، مما اضطرها إلى استخدام وسائل المواصلات العامة بغية الذهاب إلى العمل، وتضيف: “كنت استقل قطار الأنفاق في بكين مرتين يوميا، وقد يحدث تواصل مع أناس حاملين للفيروس، لذا كنت أشعر بقلق”.
ويخشى بعض القراء من عدم التخطيط المناسب لضمان سلامة الموظفين في مكان العمل، ويقول ريني دولافيغا، من غواتيمالا: “لم تتخذ كثير من الشركات إجراءات مناسبة لتعايش الموظفين في بيئة العمل، وليس لديها خطط طوارئ ولا لجان تضطلع بهذه المهمة”.
ولا يثق ستيوارت وولي، من أيرلندا، ثقة مطلقة في إرشادات السلامة في بيئة العمل، ويضيف: “أضع صحتي وأسرتي وأصدقائي في المقام الأول، لن أقامر بهم اعتمادا على مدى التزام جهة ما بمعايير مشكوك في سلامتها مع توافر نسبة خطر”.
ويشجع آخرون فكرة العودة إلى بيئة العمل في ظل وجود إجراءات واضحة للسلامة، ويتساءل جان بنيكيز، من ولاية يوتا الأمريكية: “ما الاحتياطات التي يتخذها صاحب العمل قبل طرح فكرة العودة؟”
ويضيف بوب فيرنز، من إنجلترا: “يتعين عدم التسرع في العودة إلى بيئة العمل دون توافر إجراءات سليمة تحول دون انتشار كوفيد-19، سيطالب الناس بضمان الحد الأقصى من معايير السلامة دون الاكتفاء بمسح المناضد والمقابض”.
ويشير تسي-إرن تشوا، من سنغافورة، إلى أنه إضافة لاتخاذ جهة العمل إجراءات الحد من العدوى، يجب ألا يطالب الموظفون بالعودة إلا في حالة وجود ضرورة قصوى لذلك.
ويقول: “أتمنى تطبيق نظام مرن يُقصد به أن يلجأ الموظف إلى المكتب لتسهيل أداء مهام محددة، والالتزام بأداء باقي المهام من المنزل. سيكون من شأن ذلك طمأنة الموظفين وتقليل العدد داخل المكتب في نوبة العمل الواحدة”.
ويقول مات سيرين، من كاليفورنيا، إنه يستطيع أداء مهام عمله بعيدا عن بيئة العمل الأساسية دون تأثر، وبالتالي لا يرى حاجة لعودته للمكتب والمخاطرة باحتمال إصابته.
ويضيف: “حتى بعد ابتكار لقاح، ليست لدي رغبة في العودة، كما أن مطالبة الناس بالعودة إلى بيئة العمل دون حاجة تبرر ذلك سيمثل مشكلة بالنسبة لكثير من الشركات (والموظفين أيضا)”.
“نفس مستوى الإنتاجية”
وناهيك عن اعتبارات السلامة، يقول كثيرون إن إنتاجيتهم لم تتأثر بل ازدادت، كما استفادوا بالوقت خلال العمل من المنزل، ويؤكدون أنه لا حاجة حقيقية للعمل من المكتب لأداء وظائفهم.
وتقول كارين هيلدنبراند-أليري، من كوينزلاند بأستراليا: “إن لم تكن وظيفتك تنطوي على عمل بدني ملموس…ما الحاجة للعودة إلى المكتب لمواصلة العمل إن كان بإمكانك العمل بنفس الإنتاجية خارجه؟”
وتقول جوليا ماينورينغ، من مقاطعة سري بالمملكة المتحدة، إنها تحب العمل من المنزل ولا ترغب في العودة للمكتب.
وتضيف: “نعمل بنفس الإنتاجية ونتمتع براحة أكثر وتركيز أفضل خلال اليوم دون الحاجة للتنقل، والرائع في الأمر هو قضاء المزيد من الوقت مع الأسرة والتوازن الحياتي أفضل كثيرا”.
وتؤكد فاليري ويلهايت، بولاية فلوريدا، نفس الأمر قائلة: “استطيع استخدام الإنترنت خلال الساعات التي كنت أقضيها في الماضي داخل السيارة (أثناء الذهاب إلى العمل). كما قلل البقاء في المنزل خطر التعرض لعوادم السيارات (إذ لا أضطر إلى استخدام المواصلات العامة للذهاب إلى العمل)”.
ولا يجد وايد إيه ريد، في كاليفورنيا، غضاضة في عدم العودة لبيئة العمل أبدا، إذ جعلته مرونة العمل من المنزل أكثر اتزانا وإنتاجية، كما وفرت المال الذي كان يُنفق على المواصلات والطعام وملابس العمل.
ويضيف أن الاجتماع على الإنترنت عبر الفيديو “يوفر فرصة الالتقاء وجها لوجه وملاحظة انفعالات الأشخاص خلال الاجتماعات وهو غير ممكن بالهاتف والإيميل فقط”.
“الجمع بين خيارين”
وجد كثيرون أنفسهم فجأة، بسبب كوفيد-19، مضطرين للعمل من المنزل وواجهوا متاعب ذلك ومنافعه أيضا.
وبينما يرغب كثيرون في مواصلة العمل من المنزل، يؤثر غيرهم العمل من المكتب.
وتنتظر تشينويكي أديغوي، من أيرلندا، بفارغ الصبر العودة للمكتب وتقول إن البعض يشعر بصعوبة العيش في نفس المكان الذي يعمل فيه والعكس صحيح.
وتضيف: “تستيقظ فتجد العمل أمامك، من المريح أن يستيقظ المرء ولا يجد العمل أمامه مباشرة”.
وتقول جوانا بيراك، في وارسو ببولندا، إنها تفتقد زملاء العمل وتنتظر بفارغ الصبر اليوم الذي تترك فيه “مكتب منزلها” بلا رجعة.
والسؤال هو: هل يوجد حل يرضي جميع الأطراف؟ هل يمكن الموازنة بين اختيار الفرد والإنتاجية؟
يقول كثير من الموظفين إن إتاحة الخيارين، سواء العمل من المكتب أو العمل من المنزل، سيكون السبيل الأفضل في عالم ما بعد جائحة كورونا.
وتقول جيسي كي، من ديترويت بالولايات المتحدة: “يجب أن يكون السماح بالعمل من المكتب أو من المنزل خيارا متاحا إن أمكن ذلك… فالسماح بالعمل من المنزل سيجعل موظفي الشركة أكثر مهارة دون اشتراط وجودهم مكانيا في محل العمل”.
وفي ألبانيا تختلط مشاعر إيلدا إي، وتقول: “أجد راحة في العمل من المنزل، وسأما أيضا، أعتقد أن أصحاب العمل يجب أن يتعلموا من هذه الخبرة وأن يسمحوا للموظفين بالعمل من المنزل في أي وقت يرغبون فيه، بدلا من فرض الذهاب إلى المكتب. لعل الجمع بين الخيارين سيكون أفضل من حيث الإنتاجية”.
وفي مانشستر أتاحت الشركة التي تعمل بها أوليفيا فيشر الخيارين للموظفين، “نحن نعمل من المكتب ومن المنزل. الأمر ناجح جدا، نعمل جيدا ونحن بالمنزل ونتبادل الطاقة الإيجابية أثناء اللقاء في المكتب. تكمن المشكلة في استخدام المواصلات للذهاب إلى العمل ومخالطة الكثير من الناس، لكن كثيرين منا يستخدمون الدراجات الآن أو الركض أو المشي للعمل”.
ويؤكد أنصار فكرة الجمع بين العمل من المكتب ومن المنزل أهمية توافر الثقة من جانب صاحب العمل.
ويقول إدريان شيل، من فيكتوريا بأستراليا: “يجب أن يقاس العمل بالناتج ويدار على هذا الأساس. من يعمل من المنزل ولا ينهي أعماله في وقتها على الأغلب لن ينهي أعماله في المكتب أيضا، فالمكان لا يغير البشر”.
وتقول إيما سادردز، في نيو ساوث ويلز بأستراليا، إنه ينبغي أن يكون السؤال هو: هل تقيس المؤسسة الأداء بعدد الساعات و”الجلوس على المقعد” أم بالأفكار والابداعات والخدمات؟”
وفي النهاية يرى كثيرون الوضع الحالي فرصة لإعادة تشكيل ملامح العمل بمرونة أكثر وذهن أكثر انفتاحا، بالتركيز على النتائج وليس المكان.
ويقول أغلب المشاركين إنهم يأملون ألا يعود الوضع تماما إلى سابق عهده، ويعتقدون أن الموازنة بين العمل في المكتب وفي المنزل سيفتح حوارا بين العمل والموظفين.
ويلخص سام جوناس، من هيمل هيمستيد قرب لندن، هذا الأمر قائلا: “لا يمكن خلق بيئة عمل سعيدة ومنتجة في ظروف غير آمنة وغير مريحة”.