قبل نهاية الأسبوع المقبل، من المفترض أن تنتهي أعمال “الجلسة العامّة” لمجموعة العمل المالي في باريس، والتي ستبت ببنود عديدة، من بينها تصنيف لبنان على قوائم المجموعة. القرار المرتبط بلبنان، سيستند إلى عدد من المعطيات المرتبطة بتقدّم البلاد في تنفيذ توصيات المجموعة، المطلوب تنفيذها لتفادي إدراج لبنان على القائمة الرماديّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا التصنيف يعكس درجة مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب المتصلة بلبنان، وهو ما يؤثّر تلقائيًا على علاقة البلاد بالنظام المالي العالمي والمصارف المراسلة.
العديد من المصادر المتابعة لمناقشات المجموعة، تستبعد أن يتمكّن لبنان هذه المرّة من الحصول على فرصة إضافيّة كما جرى سابقًا، وهو ما يرجّح إدراجه أخيرًا على اللائحة الرماديّة، التي تضم حاليًا 21 دولة، من بينها اليمن وسوريا وجنوب السودان ومالي والكاميرون. مع الإشارة إلى أنّ هذه القائمة تختلف عن اللائحة السوداء، التي تقتصر حاليًا على إيران وميانمار وكوريا الشماليّة.
الشروط لم تنفّذ
التقارير والتوصيات السابقة الصادرة عن المجموعة، تعكس بوضوح مكامن الخلل التي فشل لبنان في معالجتها سابقًا، والتي تدفع مجموعة العمل المالي إلى مراجعة تصنيفه اليوم من جديد. فتشفّي الاقتصاد النقدي، يوازيه اليوم نزعة كبيرة لاقتناء المجوهرات والأحجار الثمينة، لغايات الادخار والتداول، فيما فشل لبنان حتّى اليوم في تحديث أطر الرقابة المطلوبة لضبط هذه العمليّات. ولهذا الأسباب، ظلّت تجارة المجوهرات والأحجار الثمينة مصدرًا لمخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وفقًا لرؤية المجموعة. أمّا داخل القطاع المالي، فالمصارف تفرض الرقابة على مستوى معرفة العملاء المباشرين، لكنّها تفتقد الآليّات المطلوبة لملاحقة أصحاب الحق الاقتصادي من الحسابات، أي مالكيها الفعليين الذين قد يختلفون عن الأصحاب المُعلنين للحسابات.
على مستوى الأموال العامّة المنهوبة، أظهرت تحقيقات المجموعة وجود تباطؤ متعمّد في ملاحقة واستعادة هذه الأموال، كما أظهرت وجود تلكّؤ في تخطّي العوائق التي تحول دون ذلك. في هذا الجانب، ثمّة تلميح واضح للتواطؤ السياسي والقضائي الذي جرى طوال السنوات الخمس الماضية، في ملاحقة الجرائم المصرفيّة الكبرى، كحال فضائح حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة وشبهات تهريب الأموال بعد حصول الأزمة المصرفيّة. وبشكل عام، ركّزت تقارير المجموعة على عدم كفاية تعاون لبنان مع الأجهزة القضائيّة الأجنبيّة لمكافحة هذه الجرائم، من خلال الطلبات الصادرة والواردة من المحاكم الأجنبيّة.
فضلًا عن ذلك، ركّزت تقارير المجموعة السابقة على معايير مكافحة تبييض الأموال المتبّعة من قبل جهات خارج النظام المالي، مثل كتّاب العدل والمحامين والمحاسبين المجازين والشركات التجاريّة الخاصّة. ووجدت المجموعة قصورًا كبيرًا من قبل هذه المؤسسات في تطبيق معايير مكافحة تبييض الأموال، وفي فهم طبيعة المخاطر المتصلة بهذه العمليّة. وبشكل أخص، وجدت المجموعة أنّ المؤسسات غير الماليّة لم تكن على دراية بطبيعة المتوجّبات المفروضة عليها، في الامتثال لقوائم العقوبات الدوليّة، وخصوصًا تلك المفروضة على دول مثل إيران وكوريا الشماليّة.
فضلًا عن ذلك، وفي الكثير من توصيات المجموعة، كان ثمّة تركيز خاص على الأنشطة الماليّة التابعة لـ “مجموعة مسلّحة غير حكوميّة”، في إشارة إلى عمليّات مؤسّسة القرض الحسن، غير الخاضعة للرقابة الماليّة النظاميّة، والتي تقدّم خدماتها لتنظيم حزب الله. ولم تجد المجموعة أنّ المسؤولين الحكوميين كانوا على علم بمستوى المخاطر المتصل بعمل هذه المؤسّسة، في تلميح إلى تجاهلهم تنفيذ الرقابة على عمليّاتها. وفي الجانب الحكومي أيضًا، صوّبت المجموعة على أداء السلطات الضريبيّة والأجهزة المختصّلة بملاحقة التهريب، التي لم يكن عملها يرتقي إلى مستوى المخاطر المتصلة بهذه الجرائم الماليّة.
خطوات استباقيّة لن تؤجّل القرار
في ضوء استحقاق الأسبوع المقبل، يمكن فهم العديد من الخطوات الاستباقيّة التي جرى اتخاذها من جانب لبنان. فجولة حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري، في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، هدفت في جزءٍ منها إلى تعزيز علاقة المصرف مع المصارف الأجنبيّة المراسلة، للحؤول دون تأثّر علاقة المصرف المركزي مع الخارج في حال إدراج البلاد على اللائحة الرماديّة. وفي حقيقة الأمر، يركّز مصرف لبنان حاليًا على تبيان انخفاض مخاطر تبييض الأموال داخل النظام المالي الشرعي، المختلفة في طبيعتها عن المخاطر خارجه، والتي تدفع مجموعة العمل المالي لاتخاذ هذا القرار المحتمل. مع الإشارة إلى أنّ إداريين من مصارف خاصّة توجّهوا مؤخرًا إلى الخارج، في جولات مماثلة وللهدف نفسه.
وفي هذا السياق الاستباقي نفسه، جاءت تعاميم مصرف لبنان التي تحاول تقليص الهامش الممنوح لاقتصاد النقد الورقي، أي “الكاش”، واستيعاب جزء أكبر من عمليّاته داخل النظام المصرفي الشرعي. ومن هذه الخطوات مثلًا، استحداث المقاصّة الداخليّة بالدولار “الفريش” العام الماضي، وإعادة التركيز على الاحتياطات المفترض تكوينها في مقابل الودائع بالدولار “الفريش” لطمأنة أصحابها. وفي كل الحالات، حتّى لو لم تفلح كل الخطوات في إرجاء قرار إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة، حاول مصرف لبنان هنا استعراض هذه الخطوات بوصفها تجاوبًا مع شروط المجموعة، لتفادي تأثّر علاقته مع النظام المالي العالمي في حال تخفيض تصنيف لبنان خلال الأسبوع المقبل.
على مستوى الأجهزة القضائيّة، يمكن القول أنّ خطوة توقيف رياض سلامة جاءت في السياق نفسه. إذ كان تغاضي القضاء عن التعامل بجديّة مع الشبهات المحيطة بالحاكم السابق، أحد الأسباب التي تدفعت المجموعة للتصويب على ارتفاع مخاطر الجرائم الماليّة في البلاد. وعلى هذا الأساس، رأى كثيرون أن قرار توقيف رياض سلامة جاء كمحاولة من قبل القضاء لتبييض صورته أمام الرأي العام، وغسل يديه من أسباب إدراج لبنان على القائمة الرماديّة، قبل صدور هذا القرار.
في النتيجة، من المتوقّع أن يظهر القرار النهائي لمجموعة العمل المالي خلال الأسبوع المقبل، مع العلم أن الجلسة العامّة للمجموعة ستمتد من يوم الإثنين وحتّى نهاية الأسبوع. وفي حالة لبنان، هناك حاجة إلى أكثريّة ساحقة من أصوات الجلسة البالغة 40 صوتًا، للتمكّن من الحصول على قرار يقضي بتأجيل إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة، وهو ما يرجّح مجددًا قرار الإدراج.