منذ 17 تشرين الأول ولغاية الأمس القريب سجل عداد التعاميم في “المركزي” رقماً قياسياً جديداً، قد يُدخل لبنان موسوعة “غينيس” في حال ضمت هذه الفئة. تعاميم وقرارات وسيطة كثيرة، لا تختزل في أحيان كثيرة دور السلطتين التنفيذية والتشريعية فحسب، انما الكثير منها متناقض، وأحدها يلغي الآخر. وهو ما يشرّع السؤال إن كان بالتعاميم يدار الإقتصاد، وبالتالي ما هو دور الحكومات؟
في جعبة المركزي منذ انطلاق انتفاضة تشرين 8 تعاميم أساسية وحوالى 27 تعميماً وسيطاً، تنقسم برأي حقوقيين متابعين للشأن المصرفي الى ثلاثة أقسام: الأول، داخلي بينه وبين المصارف أجاز بها قانون “النقد والتسليف”. الثاني، تعدى دور المركزي والصلاحيات المعطاة له في حماية الليرة، الى تحديد سعرها ومعدل صرفها كالتعميمين 148 و151 متجاوزاً بذلك المادة 70 من قانون النقد والتسليف، ومتخطياً دور الحكومة”. أما القسم الثالث فامتاز بالتناقض، كمنع المؤسسات المالية على سبيل المثال من دفع الاموال المحولة من الخارج بالعملة نفسها، ومن ثم السماح لها بالدفع بالعملات الأجنبية، ليعود أخيراً ويجبرها على الدفع بالليرة فقط وبحسب سعر السوق.
مثال آخر عن تخبط المركزي يظهر في التعاطي مع السوق الموازية للصرف أي الصرافين حيث أجبروا على بيع الدولار بـ 1500 ليرة تحت طائلة الملاحقة والمعاقبة، وبالأمس القريب حُدد السعر على 2000 واليوم 2600 ليرة، ولا أحد يعلم غداً ماذا سيكون القرار.
قصيرة العمر
الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي يصف رد فعل المركزي بـ “الدجاجة المذبوحة”. وكان يمكن من وجهة نظره اختزال كل هذه القرارات والتعاميم بقرار جريء وهو “الاعتراف بأنه يوجد في لبنان سعر صرف واحد تحدده قوى السوق بناء على العرض والطلب. أما ما تبقى من تعاميم فهي تدور في فلك هذا القرار من دون ان تلامس مضمونه”.
هذا التخبط في القرارات هو ما يجعل عمر التعاميم قصيراً جداً. حيث يعجز المركزي من وجهة نظر يشوعي عن الثبات على موقف معين لفترة زمنية طويلة”.
الخوف من تفلّت سعر الصرف وما يسببه من نتائج سلبية على الاقتصاد لا يكون من خلال التثبيت النظري عند رقم معين، ولا من خلال تقييد السحوبات أو ملاحقة الصرافين وتسطير محاضر ضبط بحقهم. فالاستقرار النقدي بحسب يشوعي “لا يتأمن إلا من خلال تطبيق المركزي والحكومة سياسات مطمئنة للأسواق وللمواطنين بطريقة تذلل خشيتهم من حمل الليرة والتداول بها”.
الدولة مستقيلة
تحميل “المركزي” المسؤولية لا يعني تبرئة السلطتين التشريعية، التي استقالت من مهمتها السيادية، والتنفيذية التي تفجّر قنابل الفقر والعجز وتتلطى خلف قرارات مصرف لبنان. فمجلس النواب أزاح عن ظهره في الفترة الاخيرة مهمة تشريع القوانين المالية والنقدية، كـ”الكابيتال كونترول” على سبيل المثال. فعدم رغبة النواب في تخطي مزاج وأهواء قواعدهم الانتخابية، دفعهم إلى الامتناع عن اتخاذ قرارات جدية قاسية وحازمة لتقييد رؤوس الاموال بشكل عادل، ما أدى الى تفرد المركزي وجمعية المصارف بتطبيق ما يرونه مناسبا لهم. إنطلاقاً من أن “الطبيعة تكره الفراغ” يعلق منسق الإدارة السياسية في حزب “الكتلة الوطنية” أمين عيسى على تخلي السلطة التنفيذية عن رسم السياسات الاقتصادية، وتلزيمها إلى حاكم المركزي من دون حسيب أو رقيب. فـ”الخطة (البرنامج الإنقاذي) على سبيل المثال لم تحتوِ إلا ارقام الخسائر وتفسيرها من دون التطرق بشكل جدي الى خطة نهوض اقتصادية في بلد منهار يحقق انكماشاً اقتصادياً هائلاً”.
التعميم قبل الأخير الذي حمل الرقم 151 اعتبره المراقبون تخطياً واضحاً لدور الحكومة، وهو يهدف بحسب عيسى “إلى امتصاص الدولار من المصارف والاسواق واعطاء مكانها قيماً غير عادلة بالليرة. فسعر السوق الحقيقي سيرتفع بشكل متوازن مع السعر الذي سيحدده المركزي، وعليه فان الظلم سينتقل من ملاحقة المواطنين الى ملاحقة البلد بأسره؛ فارضاً المزيد من التضخم وارتفاع الاسعار في مقابل استمرار تدهور سعر صرف العملة الوطنية، وانهيار القدرة الشرائية”.