عادة ما تتعلم الدول من تجاربها السيئة وأخطائها وتحرص على عدم تكرارها. الا أن الدولة اللبنانية، وبعد مرور نحو ثلاث سنوات على الانهيار المالي والاقتصادي، ما زالت تتعاطى مع الواقع المستجد وكأنه لم يكن أصلاً. فهي تقترض من البنك الدولي وتسجل الدين بالدولار وفق سعر صرف وهمي يبلغ 1500 ليرة، ثم ترضخ لشروط البنك الدولي الذي يوافق على تسجيل الدين بسعر وهمي لكنه يصر على توظيف مقربين من الوزير في المشروع.
خلال الجلسة التشريعية العامة يوم الثلاثاء الماضي، وافق المجلس النيابي على اتفاقية قرض مع البنك الدولي بقيمة 150 مليون دولار لتنفيذ مشروع الاستجابة الطارئة لتأمين إمدادات القمح. وبحسب المادة الثانية من نصّ الاتفاقية، «تُفتح الاعتمادات الواردة من هذا القرض على سعر الصرف الرسمي البالغ 1507.5 ليرة لبنانية ليُصار إلى قيدها في السجلات المالية، أي ما يعادل 226 ملياراً و125 مليون ليرة».
إذاً الكذبة مستمرة برعاية الحكومة ومجلس النواب، عبر تسجيل قيود وهمية كقاعدة لاحتساب الدين المستحق على الدولة بالدولار، والذي سيسدّد في النهاية من احتياطات مصرف لبنان بالدولار. فقد كان يفترض أن يتم تقييد هذا المبلغ في خزينة بالدولة على سعر صرف صيرفة بالحد الأدنى، أي ما يعادل 3.8 مليار ليرة، أو على سعر السوق الحرّة بقيمة 4.5 مليار ليرة.
الأسوأ من هذا، أن الاحتيال ثُبّت بواسطة مشروع قانون مُحال من حكومة نجيب ميقاتي وباقتراح من وزير الاقتصاد «التكنوقراط» أمين سلام، ومرّ في لجنة المال، ثم في لجنة الشؤون الخارجية ليصل أخيراً إلى الهيئة العامة حيث صُدّق عليه.
ويدور رهان جديد مشابه لرهانات القوى السياسية الحاكمة منذ التسعينيات، على إمكانية طمس الخسائر بمزيد من الاستدانة ومن دون أي رؤية لطريقة استخدام هذا القرض. فالتقرير الصادر عن لجنة المال والمرفق بمشروع القانون يشير إلى أن النواب توافقوا على أن أموال القرض مخصصة لمادة حيوية تمس كل فرد في حياته اليومية وهي الخبز، ولن يبدأ التسديد قبل خمس سنوات أي في عام 2027 بموجب دفعتين في العام، على مدى 17 عاماً. وقد حدّد وزير الاقتصاد موجبات هذه العملية بالإشارة إلى أن القرض يؤمن مخرجاً عادلاً «لترشيد الدعم على مراحل من أجل رفعه بنهاية هذا البرنامج وإضافة المبلغ المرصود على البطاقة التمويلية (غير الموجودة)». ونفى سلام خلال الجلسة العامة أن تكون لديه أي آلية عملية لضمان عدم هدر هذه الأموال مجدداً على جشع المطاحن والأفران إنما خيّر النواب بين الموافقة على الاتفاقية لتأمين القمح أو حرمان اللبنانيين من الخبز. وبمنطق الابتزاز نفسه، شرح سلام أن الـ150 مليون دولار لن تفيد في إبقاء سعر الخبز على ما هو عليه، بل سيرتفع إلى 27 ألف ليرة في حال احتساب الدولار على 8 آلاف ليرة. وهو ما سيتم تحديده بالتنسيق مع البنك الدولي. علماً أنه وفقاً لحسابات وزير الاقتصاد نفسه، سيصل سعر ربطة الخبز إلى 35 ألف ليرة في حال رفع الدعم. وهي حسابات غير دقيقة نظراً إلى أن المواطن يدفع اليوم 15 ألف ليرة مقابل ربطة الخبز على أساس سعر صرف يوازي 1500 ليرة لبنانية.
على أي حال، لن يكون الفرق كبيراً بين قيمة الدعم عند بدء تنفيذ الاتفاقية، وسعر ربطة الخبز عند رفع الدعم بعد 6 أو 9 أشهر. إلا أن هذا الانتقال من السعر المدعوم إلى السعر غير المدعوم يحصل بلا استراتيجية للخروج من الأزمة. بل إن كلام النائب الياس جرادي عن ضرورة استخدام هذا القرض لدعم المزارع بدل تجار الرغيف لم يلق أي صدى. ولا حتى إشارة وزير الزراعة عباس الحاج حسن إلى ضرورة شراء محصول قمح بعض المزارعين اللبنانيين الذين بادروا إلى زراعة أراضيهم بالقمح الخشن والطري، وبأن عدم الشراء منهم يعني أنهم لن يزرعوا القمح مرة أخرى رغم أن باستطاعتهم تأمين 15% من حاجة لبنان.
لكن ليست هذه وحدها قصّة الاحتيال الذي يمكن تبيّنه من القرض، إذ إنه في اجتماع لجنة الشؤون الخارجية لمناقشة قرض البنك الدولي، أجمع النواب الحاضرين على «الأثر المدمر لسياسة الاقتراض وضرورة دعم الحكومة لوضع خطة إنقاذ للتخلص منها». لكن ذلك لم يحل من دون إقرار اللجنة بالإجماع للمشروع، شأنها شأن لجنة المال التي أقرته بأكثرية الأعضاء الحاضرين. علماً بأن بعض النواب طلب توضيحاً حول العبارة الواردة في المشروع: «تغيير عملة هذا المبلغ من حين إلى آخر من خلال عملية تحويل العملة» أي تغيير عملة القرض وفقاً لسعر الصرف، فأوضح مدير عام وزارة المالية بالوكالة جورج معراوي أن «العبارة وضعت تحسباً لحصول تعديل في سعر الصرف حينها يحصل تعديل في الاعتمادات». هذا السؤال لم يتكرر في الجلسة العامة سوى من قبل النائب رازي الحاج الذي طالب بإلغاء المادة الثانية التي تشير إلى احتساب قيمة القرض على سعر الصرف الرسمي، فقابله رئيس مجلس النواب بالقول أنه تم التصديق على المشروع، ما دفع الحاج إلى الانسحاب من الجلسة قبل العودة مجدداً بعد إحالة القانون الملحق بالاتفاقية إلى لجنة المال. المثير للسخرية أن المجلس النيابي بغالبيته لا يعرف ما المواد التي صدّق عليها، وعلمت «الأخبار» أنه جرى التواصل مع الأمانة العامة لرئاسة الحكومة للطلب إليها تقديم القانون الملحق كمشروع قانون، مرة جديدة، إلى البرلمان!
هدر 2.5 مليون دولار
ضمن اتفاقية القرض فرض البنك الدولي شرطاً يقضي بتخصيص 2.5 مليون دولار كرواتب متصلة بالإشراف على إنفاق القرض من غير العاملين في القطاع العام. فالاتفاقية مقسمة إلى جزأين: جزء غير ميسّر بقيمة 135 مليون دولار، وجزء ميسّر بقيمة 15 مليون دولار لا تضاف إليه أي فوائد. الجزء الميسّر بحسب مصادر وزارة الاقتصاد يأتي على خلفية شرط البنك الدولي بتأمين الخبز بكلفة ميسورة إلى اللاجئين وهو ما ذُكر في الاتفاقية. كذلك اشترط البنك الدولي اقتطاع 2.5 مليون دولار من قيمة القرض لتخصيصها كاعتمادات في موازنة المديرية العامة للحبوب والشمندر السكري مقابل نفقات تشغيلية مقسمة على الشكل التالي: مليونا دولار و42 ألف مليون كبدلات أتعاب، 400 ألف دولار تجهيزات للمعلوماتية، 10و 4 آلاف دولار صيانة لتلك التجهيزات، 10 آلاف دولار قرطاسية للمكاتب، 8 آلاف دولار صيانة عادية وتصليح طفيف للوازم المكتبية، 10 آلاف دولار نفقات شتى متنوعة، 6 آلاف دولار مطبوعات، 5 آلاف دولار استئجار سيارات، 4 آلاف دولار تجهيزات فنية مختلفة، 6 آلاف دولار صيانة للتجهيزات الفنية، ألفي دولار محروقات سائلة، ألف دولار للبريد، 700 دولار إعلانات، و500 دولار لوازم مكتبية أخرى. وفي الملحق الخاص بتنفيذ المشروع، اشترط البنك الدولي تعيين موظفين أو خبراء في وزارة الاقتصاد على أن يحظوا بموافقة البنك المسبقة على الاختصاصات والمؤهلات والمخصصات. وبحسب مصادر في وزارة الاقتصاد، احتدم النقاش بين ممثلي البنك الدولي ومدير عام مديرية الحبوب جريس برباري خلال أحد الاجتماعات ولا سيما مع تحديد البنك مبلغ ألفي دولار لكل موظف مساعد سيجري تعيينه. إذ ذكر برباري أن راتبه يعادل 240 دولاراً فكيف يعين موظفاً لمساعدته مقابل ألفي دولار.
يبدو أن ممثلي البنك يرغبون في خلق إدارة رديفة في الوزارة شبيهة بالإدارة التي خلقها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، على حساب الدولة اللبنانية وبدين مسجّل بالدولار. وكان النائب وائل أبو فاعور ألمح إلى رائحة عمولة في هذه الاتفاقية سائلاً سلام عمن يكون إبراهيم مردنباي، وعما إذا تقاضى عمولات. فهذا الرجل هو صديق شخصي لوزير الاقتصاد عينه مستشاراً له ولعب دوراً بين الوزارة والبنك الدولي.