منذ تسلّم الوزير جوني قرم وزارة الاتصالات تحوّلت الأخيرة إلى محور عمل الهيئات الرقابية، إذ قلّما خلا عقد أو اتفاق من الشوائب ومخالفة الشروط القانونية. هكذا، تكاثرت تقارير ديوان المحاسبة وهيئة الشراء العام حول كل الملفات التي تعني الوزارة، ما أدى إلى إلغاء عقود لتحسين شروطها لمصلحة الدولة وحماية المال العام، وكان الوزير في كل مرة يلجأ إلى مجلس الوزراء لتأمين غطاء يخوّله تجاوز هيئات الرقابة بذريعة «الظرف الاستثنائي». وهذا ما حصل فعلياً في إعادة تلزيم خدمة البريد عقب انتهاء عقد «ليبان بوست» وتمديد القرم لها سنة إضافية، ثم إجراء مزايدة لم تستوفِ الشروط وفقاً لرأي هيئة الشراء العام، ليوصي ديوان المحاسبة بتعديل دفتر الشروط وإعادة إجرائها. وبعدما أُطلقت المزايدة ثلاث مرات وأُبطلت، طلب وزير الاتصالات، بحجة «الظرف الاستثنائي»، إدراجها على جدول أعمال مجلس الوزراء لإقرار النتيجة الأخيرة التي صُبّت على العارض الوحيد، تحالف Merit invest – Colis Privé (الأولى لبنانية مملوكة من رودولف سعادة صاحب شركة CMA-CGM للنقل البحري التي التزمت بتشغيل مرفأ بيروت، والثانية فرنسية، لديها رخصة توزيع بريد وليست لديها مكاتب بريدية).
إلا أن مجلس الوزراء رفض السير في طلب الوزير، وأوصاه وفقاً للقرار الرقم 2 تاريخ 16/11/2023 بتمديد عقد «ليبان بوست»، على سبيل التسوية، ابتداءً من 1/6/2023 (تاريخ انتهاء سنة التمديد لها) وحتى تسلّم المشغّل الجديد وتكليف وزارة الاتصالات بتعديل جداول أسعار الخدمات البريدية الواقعية إلى حين إطلاق المزايدة الرابعة.وفقاً لتوصيات الديوان، كان مفترضاً أن يسارع الوزير إلى تعديل دفتر الشروط حفاظاً على المال العام الذي أهدرته «ليبان بوست» طوال 25 عاماً في مخالفات وثّقها الديوان نفسه، أو أن يعمل على استعادة القطاع وإدارته من المديرية العامة للبريد. بدلاً من ذلك، ارتأى قرم إرسال كتاب إلى رئيس الديوان القاضي محمد بدران (8/1/2024) يبلغه فيه بأنه لن يتمكن من تطبيق كل توصيات الديوان، بحجة أن مجلس الوزراء كلّفه في 16/11/2023 بـ«تعديل جداول أسعار الخدمات البريدية الواقعية إلى حين إطلاق المزايدة الرابعة». وتعديل الأسعار هنا يتعلق بقيمة رسوم الخدمات البريدية التي تقدّمها «ليبان بوست»، والتي لم تُعدّل منذ بدء الأزمة المالية. ما يريده وزير الاتصالات فعلياً هو السماح للشركة برفع التعرفة وزيادة أرباحها من دون أن يترتّب عليها رفع حصة الدولة من هذه الخدمات! وقال قرم في ختام كتابه إلى الديوان إن تعديل جداول أسعار الخدمات البريدية سيحقق «تحسين التشغيل للمرفق البريدي وتعزيز فعّاليته، ما يسمح باستقطاب مستثمرين جدد، وسيلزم الشركة بأن تسدّد حصة الدولة وفقاً للسعر الواقعي»، إلا أنه «لن يحقق النتيجة المرجوّة من توصيات الديوان». ما يقول قرم للديوان، بكلام آخر، هو أنه سيسمح لـ«ليبان بوست» بزيادة أسعار خدماتها بما يتناسب مع التغيّرات الاقتصادية بما يضاعف أرباحها من دون أن تتقاضى الدولة حصة من هذه الرسوم! ومن هذا المنطلق، توجّه وزير الاتصالات إلى الديوان بالسؤال الآتي: «هل يمكن تعديل جداول الأسعار، علماً أن ذلك لا يحقق شيئاً من توصياتكم؟»، التي تطالب الوزارة برفع النسبة المئوية من حصة الدولة على الإيرادات الإجمالية السنوية وأن يشمل ذلك كل الخدمات التي تقدّمها «ليبان بوست»، سواء أكانت بريدية أم غير بريدية. كما طلب الديوان إعادة النظر في بدلات إيجار العقارات العائدة للدولة والمشغولة من قبل الشركة، إذ ثبت أن هناك مكاتب «مستأجرة» من الدولة مجاناً، وأخرى لم يتم تعديل بدلاتها منذ 25 عاماً.
الديوان ينتقد «بطء» الوزير
أول من أمس، ردّ رئيس الديوان على كتاب قرم في مذكّرة صادرة عن رئيس الغرفة الثانية القاضي عبد الرضا ناصر قال فيها إن توصيات الديوان لا تتعارض بتاتاً مع الإجراءات الآيلة إلى رفع تعرفة الخدمات البريدية. وشرح للوزير كيفية زيادة حصة أرباح الدولة بالنسبة المئوية توازياً مع رفع سعر الخدمة. وعرض الديوان في المذكّرة جدولاً يقارن فيه بين التعرفة المفترضة للخدمات، وأوضح – على سبيل المثال – أن خدمة بقيمة 10 آلاف ليرة لبنانية قبل الأزمة كانت حصة الوزارة منها 5% أي ما يساوي 500 ليرة، وأن تعديل التعرفة بعد قرار مجلس الوزراء لتصبح 600 ألف ليرة سيؤدي إلى حصول الدولة على 30 ألف ليرة وفقاً للنسبة القديمة، فيما سيرفعها إلى 48 ألف ليرة بعد تطبيق توصية الديوان.
«لذلك يجب على الوزير الحرص على رفع نسبة حصة الدولة، وتطبيق كامل توصيات الديوان بالتوازي مع تطبيق قرار مجلس الوزراء لعدم التعارض بينهما»، ولا سيما في ما يتعلق بتعديل العقد مع «ليبان بوست» ريثما يتم إجراء المزايدة الرابعة. وحثّ الديوان وزير الاتصالات على العمل «من دون إبطاء لإطلاق مزايدة جديدة لتلزيم وتشغيل المرفق العام البريدي، إضافة إلى ضرورة إدارة الوقت واستثماره بالطريقة الفضلى لما له من قيمة مالية وأهمية بالغة في عملية تلزيم القطاعات الاقتصادية والمرافق العامة الحيوية، ما يرفد الخزينة بالأموال».