مع قرار إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجميد مساعدات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، فإن نحو 6000 مشروع تموّلها الوكالة الدولية حول العالم لن ينفذ منها سوى 500. ووفق مصادر متابعة فإن كل المشاريع التي كانت USAID في صدد تنفيذها في لبنان ستتوقف تماماً، بما فيها المنح التعليمية لطلاب تبلّغوا بوقف التمويل في منتصف دراستهم الجامعية.
ويبقى تقييم الضرر الناجم عن القرار على لبنان أمراً صعباً ومعقّداً، في ظل انعدام الشفافية الذي طبع عمل المنظمات والوكالات الدولية لناحية مصادر التمويل. فمع تراخي الدولة اللبنانية وتغاضيها عن مصادر تمويل الجمعيات ووجهة إنفاقها، طمعاً بزيادة الأموال لسدّ الفراغ الذي أحدثه انسحابها من أدوارها التنموية، كانت النتيجة افتقاراً تاماً لبيانات شاملة عن إجمالي المساعدات الأجنبية المقدّمة إليها.
إلا أن تقريراً للأمم المتحدة وُزّع قبل أسبوعين على الوكالات والمنظمات الدولية، حول تأثير القرار الأميركي في منطقة المتوسط، يؤكّد أن أزمةً حقيقية سيشهدها قطاع المياه في لبنان. إذ إن USAID التي تغطي ثلث التمويل الخارجي في هذا البلد، كانت تخصص حوالى 30% من تمويلها لدعم هذا القطاع. وسيلحق الضرر بالدرجة الأولى بمخيمات النازحين السوريين التي كانت تحظى بحصّة كبيرة من التمويل المرصود للمياه.
صرف موظفين
وفيما قلّص برنامج الغذاء العالمي مشاريعه بنسبة كبيرة، تصل إلى 70% في ما يتعلق بالنازحين السوريين، علمت «الأخبار» أنّ منظمات مثل Chemonics وDAI توقفت عن العمل تماماً بعد القرار الأميركي، فيما أكّد عاملون في هذا المجال أنّ «المنظّمات التي تعتمد في تمويلها بشكل كلي على USAID بدأت عملية صرف للموظفين، وفرضت منظمات دولية ومحلية أخرى على عشرات الموظفين أخذ إجازاتهم السنوية أو توقيع إجازات طويلة غير مدفوعة».
كذلك تبلّغت منظمات أن بعض الفواتير المعلّقة «لن يتم تسديدها»، فيما لن يكون قانونياً التصرف بالأموال التي لم تُنفق بعد والموجودة في حسابات المنظمات والوكالات، ويمكن لوزارة الخارجية الأميركية استعادتها. ما يعني أن على هذه المنظمات وقف مشاريع وبرامج كانت قد باشرت بتنفيذها، والبحث عن ممول آخر لها. ووفقاً لمعلومات «الأخبار»، فإن «بعض المنظمات وصلتها رسائل تسمح بإنفاق الأموال المرصودة لها، ولكن على مشاريع محددة».
وقد دخلت الوكالات والمنظمات الدولية لبنان للمرة الأولى بعد عدوان تموز 2006، كما أسهمت في «التدخل الإنساني» بعد أحداث مخيم نهر البارد عام 2007. وغابت بشكل كبير بين عامَي 2007 و2011، لتعود مع اندلاع الأحداث في سوريا، وبدء توافد النازحين السوريين إلى لبنان. وعلى مدى 13 عاماً، شكّلت الوكالات الدولية وشركاؤها المحليون ركناً أساسياً في القطاع التنموي في لبنان.
30% من المساعدات الدولية للبنان تقدمها USAID ثلثها كان مخصصاً لقطاع المياه
وتظهر أرقام السنوات الثماني الأخيرة أنّ نسبة التمويل الأميركي عبر USAID شكّلت جزءاً كبيراً من مجمل المساعدات التي تلقاها لبنان. إذ بلغت 33% عام 2017، و31% عام 2018، و30% عام 2019، و29% عام 2020، و34% عام 2021، و24% وعام 2022، و23% عام 2023، و22% عام 2024. وبلغ مجمل ما قدمته الوكالة الأميركية 293 مليون دولار، في مقابل مليار و33 مليون دولار لبقية المانحين.
وإذا ما اعتمدنا عام 2024 لفهم كيف يتوزّع دعم USAID في لبنان، يظهر أن مساهمة الوكالة في خطة الاستجابة (LRP) التي يستفيد منها لبنانيون ونازحون سوريون، تركزّت على قطاعات المياه والتغذية والصحة والتعليم. حيث شكّلت مساهمة الوكالة الأميركية نسبة عالية من إجمالي المساعدات الدولية لتلك القطاعات، وفي التفاصيل: أسهمت USAID بـ 30 مليون دولار من أصل 58 مليوناً أنفقها جميع المانحين على قطاع المياه، أي ما نسبته (34%)، يليه قطاع التغذية، بحيث أنفقت ما نسبته 29% من مجمل الإنفاق على التغذية، ثم الحماية (21%)، فالصحة (13%)، والتعليم (12%)، والأمن الغذائي (8%)، والاستقرار الاجتماعي (8%) والإيواء (7%) والمعيشة 6%.
أما على صعيد مساهمة USAID في النداء الإنساني الذي أطلقته الحكومة اللبنانية أثناء عدوان 2024، فقد تكفلت الوكالة بـ89% من مجمل المساعدات اللوجستية التي قدمها المانحون، وبـ66% من المساعدات المتصلة بالأمن الغذائي، و42% من مجمل المساعدات المرتبطة بالاستقرار الاجتماعي، و40% من المساعدات المقدمة للقطاع الصحي… إلخ.
وقبل قرار ترامب، رصدت الوكالة 48 مليون دولار لإنفاقها في لبنان، منها 33.1 مليون دولار لخطة الاستجابة (LRP)، و15 مليوناً لما يسمّى flash Appeal أو «النداء» الذي أطلقته الدولة اللبنانية خلال عدوان 2024، وخصصت المساهمات المالية فيه لأعمال الإغاثة والتعويضات.
وهذه الملايين الـ15 كانت مخصصة بدورها لـ13 منظمة دولية و5 منظمات محلية، ووكالة واحدة تابعة للأمم المتحدة، يُرجّح أنّها الـ«يونيسف». ومن بين الـ48 مليوناً، كان المموّل الأميركي قد أعطى الموافقة على دفع 12.7 مليون دولار كمرحلة أولى، مقسّمة بين 10.7 ملايين لـflash Appeal، قُسّمت قطاعياً بشكل أساسي كالتالي: 3.5 ملايين لمنظمة الصحة العالمية، 2.284 مليون للإنفاق على قطاع المياه، مليون و30 ألف دولار للتواصل والخدمات المشتركة، و330 ألفاً لمشاريع إيواء مخصصة للسوريين، 123 ألفاً للحماية… الخ. فيما يتبقى مليونان لم يوضح التقرير وجهة استخدامهما. وفي جميع الأحوال بعد قرار ترامب بوقف التمويل، جمّدت هذه الأموال ولم يتم إرسالها إلى لبنان.
المتضررون
في السنوات العشر الأخيرة (2014 – 2024) شكّل تمويل USAID وحدها، ما نسبته 29% من مجمل المساعدات المقدمة دولياً لخطة الاستجابة في لبنان (LRP). وهي خطة تندرج تحتها عناوين عدّة، مثل المياه والغذاء والتعليم، الصحة، البنى التحتية، الكهرباء، الإيواء، حقوق الإنسان… وحتى كانون الثاني 2025، استفاد 16 ألفاً و366 طالباً في 10 جامعات لبنانية من منحٍ تعليمية قدّمتها الوكالة. كما أنّ مؤسسات المياه في لبنان والبلديات واتحاداتها اعتمدت على USAID في مشاريع كبيرة في مجال البنى التحتية بعد الأزمة الاقتصادية.
وسيلحق الضرر حكماً بالوزارات والعاملين فيها، المستشفيات، المدارس، المتعهدين والاستشاريين، إضافة إلى الموظفين في المنظمات. وبشكل غير مباشر، سيكون لبنان، أقله في السنوات الأربع المقبلة، أمام أثر اجتماعي واقتصادي وتنموي يطال شرائح واسعة في المجتمع، كانت تستفيد بطريقة غير مباشرة من مشاريع USAID، إذا ما بقي ترامب على قراره، وخصوصاً أن الدولة اللبنانية المفلسة غير قادرة على تعبئة الفراغ.
وفي تداعيات القرار الأميركي، فإن الوكالات والمنظمات الدولية الكبيرة ستتأثّر بشكلٍ أساسي، وحكماً المنظمات المحلية العاملة معها، وتأتي مشاريع وكالات الأمم المتحدة في مقدمة المتضررين. وإذا كانت المنظمات غير الحكومية الصغيرة الحجم تتمتع بفرصة الاستمرار إذا وجدت ممولاً آخر لمشاريعها، إلا أن الوكالات والمنظمات الضخمة مثل الـ«يونيسف» وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة «العمل ضد الجوع» وغيرها، ستجد صعوبة كبيرة في سد الفراغ الذي سيحدثه توقف تمويل الوكالة الأميركية، فيما يجزم عارفون بأنّ الدول الأوروبية ليست في وارد أن تدفع أكثر مما تقدّمه من تمويل، بينما الصينيون، كالعادة، لا يعملون إلا على دعم مشاريع محددة، وعبر سفاراتهم، لا المنظمات.
«يونيسف» تعلن تعليق وتقليص برامجها في لبنان
أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة («يونيسف») أن قرار واشنطن خفض المساعدات الأميركية أجبرها على «تعليق أو تقليص برامجها في لبنان». وقالت نائبة ممثل الـ«يونيسف» في لبنان إيتي هيغينز: «اضطررنا إلى تعليق أو تقليص أو خفض كثير من برامجنا بشكل كبير، وهذا يشمل برامج التغذية»، في وقت أشار تقرير أصدرته الوكالة الدولية أخيراً إلى أن أكثر من نصف الأطفال دون سن الثانية يعانون من فقر غذائي شديد في منطقتي البقاع وبعلبك، وأن نحو 80% من الأسر بحاجة إلى دعم عاجل، وأن 31% منها ليس لديها ما يكفي من مياه الشرب، ما يعرّضها لخطر الإصابة بالأمراض.
ولفتت هيغينز إلى أن «أكثر من نصف مليون طفل وأسرهم (في لبنان) معرضون هذا الشهر لخطر فقدان الدعم النقدي المقدم من وكالات للأمم المتحدة. وسيؤدي ذلك إلى حرمان الفئات الأكثر ضعفاً من آخر شريان حياة بالنسبة إليهم ويجعلهم غير قادرين على تحمل حتى نفقات المستلزمات الأساسية»، علماً أن النداء الذي أطلقته «يونيسف» من أجل لبنان عام 2025 لم يُموّل إلا بنسبة 26%.