حاولَ حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، في كلمته أمام الأندية اللبنانية في واشنطن، أن يشرح ما قصده سابقاً حول الودائع المؤهلة وغير المؤهلة، فبادرَ إلى تصنيف الودائع بحسب تأثيرها الاجتماعي في نظره؛ معتبراً انّ «مَن حَوّل 20 مليون دولار إلى لبنان للاستفادة من الفوائد العالية، يمكنه أن ينتظر في اعتباره مستثمراً وليس مودعاً. وسيتم التعامل مع هؤلاء على أساس أنهم ضَليعون بالآليات المالية لاستعادة ودائعهم، كالمساهمة في رساميل المصارف أو الحصول على سندات بدلاً من تقسيط أموالهم على دفعات صغيرة».
هذه نظرية لا تمتّ الى عالم الاقتصاد بصلة، ومَن هو مؤمن بها لا يعرف طريقة بناء اقتصاد منتج، فالتغاضي عن حقوق المودعين الكبار، وهم الفئة المحرّكة للاقتصاد، فيه خراب مقصود للبلد، ويبدو انّ هناك من يدفع في هذا الاتجاه ليُبقي لبنان رهينة عجزه الاقتصادي، وإبقائه مُرتهناً للديون لسنوات عدة مقبلة.
نكرر انه اذا لم يُرجعوا ما تبقّى من الودائع بسرعة لن تكون هناك عودة للمشاريع في لبنان وسيغرق الجميع في الفقر والتعتير، فالمودعون الصغار سيصرفون اموالهم ولن تبقى مشاريع انتاجية في البلد كما حصل في بلدان أخرى، وهذه تعرّضت لشلل اقتصادي على رغم من انّ ما أخذته من الودائع أقل مما حصل عندنا. بالاضافة الى انّ كسر الثقة اليوم عبر محاولة الاستيلاء على حقوق المودعين الكبار سيُسبّب امتناع اي مستثمر او مغترب بإنشاء اي مشروع او استثمار او توظيف أمواله او تحويلها الى لبنان.
وهذا سيؤثر على كل الفئات بلا استثناء، خصوصاً انّ الازمة اليوم ليست ازمة ودائع فحسب، بل ازمة معاشات وتعويضات وغيرها، والحل يكون بتكبير حجم الاقتصاد والانتاج. فكيف سنقوم بذلك اذا فقدنا الفئة المحرّكة للاستثمارات، أي المودعين الكبار؟
هذا من جهة، امّا الملفت فهو اعتبار انّ هؤلاء المودعين تم استدراجهم بالفوائد المرتفعة، وهذا اعترافٌ ضمني بأنه تم نسج فخ للايقاع بهم، تماماً كما حصل مع وحش وول ستريت بيرني مادوف Bernie Madoff، ولكن الفارق ان الحكومة الاميركية استولَت على كافة اصول «مادوف» وعائلته واعادت ما تبقّى للمستثمرين، اما حكومتنا فلم تطالب مَن تَسبّب بهذه الفضيحة من المسؤولين في مصرف لبنان المركزي واصحاب المصارف بتَحمّل نتيجة افعالهم بل ساندتهم، ولم تضع يدها على اي اصول بل قررت القصاص من المودعين الكبار. فبدل محاسبة السارق، تحاسب مَن تَمّت سرقته، وبدل ان تضع يدها وتتدخل للحفاظ على ما تبقى، تدعم المصارف لاستكمال نهبها لِما تبقّى. لذلك، لو كان المودعون استثمروا مع «مادوف» لكان افضل لهم.
ونكرّر: يجب ان تتم محاسبة كل مصرف على حدة وتعود الودائع التي كانت لديه ما عدا القسم الذي كان في المصرف المركزي، فلا يجوز ان يكون صاحب المصرف اغتنى فيما المودع افتَقر. وما أخذه المصرف المركزي يجب ان تدرس الحكومة سُبل إرجاعه.
والأهم كيف يضع الحاكم بالانابة حلولاً للأزمة قبل معرفة واقع كلّ مصرف على حِدة، ولفتنا تصريح لمحامي جمعية مصارف لبنان أكرم عازوري حول تقييم المصارف إذ تساءل «كيف يمكن إجراء تقييم للمصارف إن كانت 90% من موجوداتها في مصرف لبنان؟».
اولاً، هذا تصريح خطير جداً، اذا اتّضَحت صحته يجب محاسبة جميع المسؤولين عن هذا الواقع، فكيف تسمح المصارف لمصرف لبنان بالاستيلاء على 90% من ودائعها، وهي المؤتمنة على هذه الودائع؟ كيف تحصل هذه الفضيحة؟ يجب توقيف وسجن وفرض أقسى العقوبات على كل من ساهم واشترك في ارتكاب ذلك اذا كان هذا صحيحاً. ونعتقد انّ ذلك ليس صحيحاً بل هي محاولات جديدة لتيئيس المودعين وإقناعهم بأن لا سبيل لإعادة ما تبقّى من اموالهم.
وكما كررنا مراراً يجب الاجابة عن الاسئلة التي طرحناها حول واقع كل مصرف على حِدة، اي كم استحوذ المصرف المركزي من ودائعها قبل الازمة؟ وهل أرجعَ منها مبالغاً كما صَرّح؟ وغيرها من الاسئلة التي تشكل الخطوة الاولى نحو تقييمٍ سليم للواقع واعادة هيكلة للمصارف.
وتُماطِل المصارف عن قصد في الاجابة وفتح الاوراق تمهيداً لتقييم سليم لواقعها، وهذه المماطلة تهدف الى قضم مزيد من الودائع، وتحقيق مزيد من الارباح لأصحاب المصارف. والّا فما المانع اليوم من الاجابة عن هذه الاسئلة؟ ولماذا التهرّب من تقييم واقع كل مصرف؟
يبقى انّ عِلّتنا الاساسية، التي كانت وستبقى، هي غياب الشفافية المطلقة. والى ان تصبح الشفافية مطبّقة كلياً، لا يمكن التعويل على اي خطة او تصريح يصدر من مسؤول في دولة أفقرَت شعبها.