بالتزامن مع الاشتباك، الذي كان دائراً بين التيار الحاكم، أعني به التيار الوطني الحر، الذي يتصرَّف رئيسه، وهو رئيس كتلة نيابية، ووزير خارجية الجمهورية اللبنانية كأنه «المنقذ»، وحزب «القوات اللبنانية» عبر وزرائه الأربعة في حكومة «إلى العمل» الذي يشعر رئيسه، الذي خاض الحرب أو الحروب تحت شعار «احمل صليبك واتبعني»، انه خُدِع بما يسمى «تفاهم معراب»، وأن الشريك في التفاهم يجنح، بلا أدنى شك، إلى حصر التمثيل المسيحي في بلد «الشركة والمحبة» به، ليس في «الملاكات العليا» في الدولة، بل أيضاً في المؤسسات العامة، امتداداً إلى القطاع الخاص.. بالتزامن مع الإشتباك حول ما سمي بـ«خطة الكهرباء» التي انتظرت عشر سنوات، أي عقداً كاملاً، لتأتي سيّدة إلى وزارة الطاقة، وتدخل تعديلات على الخطة، وتقدم إلى الرأي العام، انه الخطوة، التي تعتبر حجر الأساس، في وقت العجز، وقهر الهدر، وإعادة التيار إلى منازل اللبنانيين بفاتورة واحدة، وبيع جلد الدب قبل اصطياده، كان الرئيس سعد الحريري، وهو الذي بشَّر بـ«خيرات» مؤتمر «سيدر»: إنهاض الاقتصاد، إعادة بناء البنى التحتية المترهلة، أو المتخلفة، توفير مئات ألوف فرص العمل للشباب اللبناني، للبقاء على أرضه، والحد من الهجرة أو النزف البشري أو «هجرة الأدمغة».. يعلن أيام الملأ، وفي مؤتمر صحفي، ومن القصر الجمهوري، أو السراي الكبير، أن «إجراءات موجعة» آتية لا محالة، وإلا فأمام اللبنانيين، نموذج الخراب اليوناني، أو اليونان، الذي لا يتشابه مع لبنان، فقط (بالألف والنون في آخره)، بل أيضاً بأن كلا البلدين يعد صغيراً، قياساً إلى البيئة الجغرافية أو الاقتصادية التي ينتمي إليها..
سارع فريق بعبدا، عبر الإعلام، وفي الجلسات الضيقة، أو عبر الخبراء الاقتصاديين والماليين، وزراء كانوا أم مصرفيين، إلى التعبير عن استيائه من «إعلان الحريري»، ومضى هؤلاء، يحضرون للخطوة التالية، عبر تكتيك وضع في خدمة «استراتيجية التيار الحاكم» القاضية بإسقاط «الخطة الاقتصادية» أو المشروع الإقتصادي للحريرية، ومن وقائع هذا التكتيك، استهداف وزير الإقتصاد وهو مصرفي معروف، منصور بطيش حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عبر إعلان عقم «الهندسات المالية» التي دأب عليها الحاكم على مدى ولاياته المتتالية، والتي تحمل الرقم 5 (الولاية الحالية)، والذي كان من أبرز الشخصيات اللبنانية التي شاركت في اجتماعات محافظي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في الولايات المتحدة الأميركية (واشنطن).
ربطت خطة الكهرباء بالموازنة العامة (2019). وما كاد اللبنانيون، يلتقطون بعضاً من «أمل» بأن حكومة العهد الأولى، تأخذ طريقها إلى الإصلاح، حتى بدا أن مشكلة كبيرة، تكمن في الموازنة، التي أنجزت، قبل أشهر، وعادت إلى دائرة الأرقام، وكأنها لم تنجز.. وطلع وزير المال علي حسن خليل (الذي يتمتع بذاكرة رقمية نادرة) على الرأي العام، مقترحاً إعادة النظر بمخصصات السلطات العامة، والنواب الحاليين والسابقين، فضلاً عن الوزراء، وكبار موظفي الدولة، وكانت هذه أوّل إشارة للوزير المعنى، حول أزمة التمويل والأرقام والرواتب..
تتالت المواقف، الوزراء صاروا أمراء المناطق، والقطاعات، يصدرون المواقف، كأنها «أوامر عليا» ويأمرون وينهون، كأنهم أنبياء، مرسلون، منقذون، منزهون..
الوزيرة المثيرة للجدل، تبشر اللبنانيين، بزيادة تعرفة الكهرباء، قبل ان تصل الكهرباء.
الوزير «الاتصالي»، الطامح إلى أبعد من (Optex fiber) يطالب بإلغاء الستين دقيقة المجانية، لأصحاب «الموبيلات الثابتة»، باعتبارهم قادرون على الدفع، من دون ان يفكر لحظة بإعادة الـ500 دولار التي دفعت عند التراخيص لشبكات الخليوي، أو إعادة النظر «بالضريبة على الضريبة»، التي يدفعها الزبون أو المستهلك (وهذه واحدة من أبدع غرائب العجائب اللبنانية).
وفي وقت واحد: وزير الصناعة يتهم زميل له بـ«غزوة صحية» على مستشفى راشيا الحكومي، يرد الوزير الغازي (وهو بالمناسبة طبيب، حضاري، يحمل الجنسية الأميركية إلى جانب الجنسية اللبنانية، كما بات معروفاً) بأنه في المرة المقبلة يحصل على «فيزا» من وزير وزراء «التيار الحاكم» وزير الخارجية حتى لا تفسَّر زياراته المقبلة إذا حدثت، بأنها غزوة..
أمَّا الأمر، المريب، والعجيب، هو ما أعلنه رئيس طواقم «التيار القوي» من جنوب لبنان، من شرقي صيدا، وأمام جمهور مسيحي (معظمه غير محسوب عليه) جبران باسيل، فهو يُخيّر الموظفين: تخفيض مؤقت للرواتب أو لا رواتب.
يضرب صمت مطلق بلد «المعجزة اللبنانية» أيام الستينات، وبلد استضافة اللاجئين والنازحين، منذ أيام النكبة إلى فتح الحدود بدءاً من عام 2011 لمئات ألوف النازحين السوريين، بكرم، وبلد «التحرير والمقاومة» بعد إسقاط اتفاق 17 أيار 1983، وبلد «الجناح المقيم والمنتشر» وحملة «المظلات» انتصاراً للاتحاد السوفياتي (عندما كان عظيماً) والرايات (دفاعاً عن ثورة الجزائر، وعبد الناصر والهند الصينية، ونيكوروما، والحركة الشعبية في انغولا، ومنظمة التضامن الأفرو-آسيوي).
من اللحاق بالانموذج اليوناني، إلى رواتب منخفضة أو لا رواتب، الخطة، التي باتت تعني أولاً زيادة التعرفة أو لا كهرباء… ما الذي يحدث فعلاً؟ ولِمَ الآن؟ وهل ثمة حلول ممكنة؟
من الخطأ الاعتقاد ان «الستاتيكو اللبناني» بكل أنظمته المصاغة، عل مرّ أزمان الانتداب، والاستقلال، والثورات، والحرب الأهلية، والحروب المتصلة، وتجاوز الحدود إلى الإقليم (تجربة حزب الله) قابل للحياة بعد..
إن هذا الستاتيكو، بكل أنساقه المالية، والخدماتية والنقدية، والسياسية، وحتى التعايشية، ارتباطاً بتحولات الإقليم (الشرق الاوسط، والمنطقة العربية) بات على الطاولة.
ووضعه على الطاولة لا ينفصل البتة عن إعادة وضع الجزائر وليبيا والسودان على الطاولة أيضاً، في محاولة دولية، من دول المركز، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية، لإقامة نظام إقليمي أكثر توازناً بين «السنَّة والشيعة»، يسمح بدور أكثر تأثيراً «للقوة اليهودية» مع بقاء بنيامين نتنياهو في السلطة، وتراجع دورة «القوة التركية».
لا تكفي الجغرافيا، لإعادة اضعاف «الدور الإيراني». جاءت العقوبات الأميركية كجزء من حملة أوسع، لتفكيك «الامبراطورية الإيرانية العسكرية» وهي الأولى من نوعها في هذا العصر، خلافاً للإمبريالية النمطية (غزو واحتلال) التي تمكنت، وفقاً للضابط الميداني السابق في (C.I.A) (وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية) روبرت باير (Baer) من أن تكون دولة عظمي في الشرق الأوسط بفضل «استراتيجية» من عناصر ثلاثة: الحرب بالوكالة، الأسلحة غير المتكافئة، اكتساب تعاطف المضطهدين..
فبالإضافة إلى غزة، يتحدث باير عن حزب الله، ويصفه بـ«الدولة المفروضة بحكم الأمر الواقع» مع ثقل عسكري وتنظيمي اكثر، والتزام طائفي أكبر مما تمتلك السلطات الرسمية في بيروت.
امتدت العقوبات الأميركية على لبنان، وهي لا تكفي لإنهاك حزب الله.. فجاء دور المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمها صندوق النقد الدولي، الذي اتسع نفوذه إلى القارات الخمس، بعدما بلغ عدد أعضائه 188 دولة.. وهو لا يستخدم أسلحة أو جنوداً، بل يستعين بوسيلة غاية في البساطة، وهي واحدة من آليات النظام الرأسمالي، اعني عمليات التمويل… باعتباره الملاذ الأخير للتزود بالسيولة.. وعليه لا يبقى امام الحكومات المأزومة غير قبول عرض الصندوق وتنفيذ شروطه، بصرف النظر عن النتائج الكارثية، التي قد تقع لاحقا (وغالباً ما تقع)..
تدل تصريحات الوزراء، والوقائع المالية، ان حكومة لبنان، الآن هي حكومة مأزومة، وان البرنامج المالي والنقدي، الذي تتبناه، بات محكوماً بمعادلة «شرائط سيدر أو الانهيار»، أي شرط صندوق النقد الدولي أو انهيار الليرة اللبنانية.
وبالعودة إلى النموذج اليوناني.. بدأت القصة عام 2010، عندما أعلن رئيس الوزراء باباندريو أن عجز ميزانية بلاده سيبلغ أكثر من ضعف العجز، الذي أعلنت عنه حكومة سابقة وهي لن تتمكن من تنفيذ طلب صندوق النقد والاتحاد الأوروبي والمصرف المركزي الأوروبي أو ما عرف وقتها «بالترويكا»، مما أدى إلى فرض هذه الترويكا وصايتها على ميزانية الحكومة اليونانية.. عبر الزامها بتنفيذ أقصى برنامج تقشف منذ الحكم الديكتاتوري عام 1972، والذي قضى (أي برنامج التقشف) تخفيض الإنفاق 10٪، وزيادة سن التقاعد (66 عاماً)، تقليص الإنفاق على النظام الصحي، زيادة معدلات الضريبة، تخفيض دخول العاملين في القطاع العام، وتسريح أكبر عدد ممكن من العاملين في الدولة.
لا شيء، يدعو للعجب، استرجع ما قرأت، أو ما تسمع، في أي مكان في لبنان: إلغاء التقديمات، تخفيض الرواتب، محاصرة المكلف بأعباء جديدة، والهدف تخفيض الموازنة 2،5٪، فهل هذا ممكن أو متاح؟
تحدث مقربون من «الحزب الحاكم» عن 13 نيسان اقتصادي، وعن مقاومة اقتصادية.. وعن اجراءات موجعة: بتر عضو من الجسد أو الموت الحتمي (سريرياً كان أو بطيئاً).. في وقت يتحدث فيه آخرون، عن «استعمار الصندوق الدولي» أو سياسة إملاء قواعد الحكم..
ولا حاجة بعد ذلك، لحرب على الفساد، أو شفافية، أو ديمقراطية زائدة.. فقد انتهى زمن الترف اللبناني والذكاء اللبناني!