«دعم الأدوية الأساسية وأدوية الأمراض المزمنة والمستعصية»، بتلك العبارة خرج اجتماع السراي الحكومي المخصص لبحث مسألة الدعم، أمس. التوصية تدخل ضمن خطة وزارة الصحة لترشيد الدعم عبر تخفيض 10% من قيمة الفاتورة الدوائية سنويا وكذلك سعر الدواء المدعوم بالدولار. على هذا الأساس، قدمت الوزارة دراسة حول خيارات رفع الدعم الجزئي «لتخفيف العبء على احتياطي المصرف المركزي مع المحافظة على تأمين الأمن الدوائي».
الدراسة التي أعدتها وزارة الصحة توزّع قيمة فاتورة الاستيراد حسب التصنيف الطبي: أدوية الأمراض المزمنة 25%، الأمراض السرطانية 21%، أدوية الصحة العامة 19%، أدوية الأمراض المستعصية 15%، ادوية OTC (over the counter) أي التي يمكن شراؤها من دون وصفة 15%، لقاحات 2% وحليب 2%. كما قسّمت دعم المصرف المركزي لكل ما يختص بالقطاع الطبي على سعر صرف 1515. ويشكل الدواء 79% من قيمة هذا الدعم بحيث لامس حتى شهر 11 من العام 2020 مبلغ 820 مليون دولار.
وتشكّل المستلزمات الطبية 15%، أي ما يعادل 160 مليون دولار. وقد عمد مستوردوها أخيرا الى التهويل بانقطاعها، فوصل الذعر والاحتكار إلى حد تخزين «روسورات» للقلب و«أَوراك» اصطناعية خوفا من انقطاعها. أما المواد الأولية التي تحتاجها المصانع الوطنية والمختبرات، فتقتصر على نسبة 4% من الدعم، أي نحو 40 مليون دولار. وهذا المبلغ ضئيل، مقارنة بما يمكن أن توفره الصناعة الوطنية من أموال مهدورة على أدوية يستوردها التجار، مستفيدين من الدعم، من دون أن تشكل حاجة للمريض، فيجري اغراق السوق بأدوية من التركيبة نفسها تصل أحيانا الى 30 نوعاً لمرض واحد.
رغم ذلك، لا تركز الخطة في مبادئها العامة على زيادة دعم الصناعة الوطنية لخفض هذا الاستيراد الهائل الذي يستهلك 80% من قيمة الدعم، بل تؤكد حصراً على «تشجيع الصناعة عبر تسريع دفع فواتير الاستيراد وضبط فواتير قيمة المواد الأولية المدعومة بالمقارنة مع سعر الدواء». وتنص على «مفاوضات توجيهية للمعامل الوطنية» سعياً إلى «سد حاجة السوق من الأصناف المعنية عبر بدائلها المحلية». أمر مماثل لا ينفذ في ليلة وضحاها بل يحتاج الى سنة أو أكثر وفق رئيس لجنة الصحة النيابية عاصم عراجي، «لكنه يشكل ضرورة قصوى وقد تأخرنا في انجازه سنوات. علما أن من شأن ذلك أن يساهم يوفر الكثير من الوظائف أيضا. وهو ما يوجب دعم هذه الصناعة جدّيا مما يمكنها مستقبلا من تغطية 41% من حاجة السوق». لكن تشجيعها لا يمكن «أن يكون اعتباطيا وغير مراقب، وهذا من صلاحية المختبر المركزي الذي تفتقد اليه الدولة اللبنانية. المختبر أولوية لمراقبة الأدوية المصنعة وأدوية الجينيريك غير المذكورة على لائحة منظمة الصحة العالمية».
تجدر الاشارة الى أن المختبر الواقع في عين التينة، بالقرب من مقر رئيس مجلس النواب نبيه بري، أقفل أبوابه عام 2007 لـ«دواع أمنية»! ومذاك توالى وزراء صحة وزراء في رأس برنامجهم بند إنشاء مختبر، من دون أن يصدق أيّ منهم، رغم ان كلفة انشائه لا تتعدى أربعة ملايين دولار، وقد عرضت دول عدة التكفل بانشائه، الا أن مصلحة الكارتيل كانت تعلو على المصلحة الوطنية. ويسأل رئيس لجنة الصحة عما يمنع أن يكون لبنان كالأردن الذي يصنّع دواء بـ800 مليون دولار ويصدر بـ 500 مليون؟ وما الذي يحول دون تصديرنا أدوية الى العراق مثلا؟
«هندسات دوائية»
تخلص وزارة الصحة الى مجموعة خيارات. أحدها رفع الدعم عن أدوية OTC، كالمسكنات وأدوية الالتهاب والاسهال وغيرها، مما يوفر 120 مليون دولار، مع الابقاء على دعم المواد الأولية للأصناف المحلية بنسبة 100%. وترى أن رفع الدعم الى سعر المنصة أي 3900 ليرة للدولار عن أدوية الصحة العامة غير المزمنة سيوفر 50 مليون دولار مما يؤدي الى ارتفاع سعر هذا الدواء بنسبة تتجاوز 100 في المئة. والتوقعات هنا أن يتراجع الطلب والتهريب على هذه الأصناف.
وقد طرحت الدراسة استكمال تصحيح أسعار أدوية الجنيريك المستوردة، بما يوفّر 50 مليون دولار أخرى. ومن شأن ذلك خفض أسعار الجينيريك (نسخة مماثلة للدواء) بنسبة 30% عن «البراند».
ومن الخيارات المطروحة رفع الدعم الى نسبة تغطية 3900 ليرة للدولار عن الأدوية المستوردة التي لها مثيل محلي مصنع بالكامل، لتوفير 40 مليون دولار، وسط تحد رئيسي يتمثل بمدى قدرة المصانع على تلبية حاجة السوق 100% على المدى القصير. وثمة خيارات أخرى، منها تخفيف الدعم للأدوية التي يقل ثمنها عن 125 ألف ليرة وترشيد صرف الأدوية المرتفعة الثمن وصولا الى اجراء مناقصة موحدة للجهات الضامنة، بما يوفر ما لا يقل عن 100 مليون دولار.
وزارة الصحة ولجنة الصحة واللجان المشتركة متفقة على أهمية الابقاء على الدعم لأن البديل هو الفوضى الاجتماعية الشاملة والتسبب بقتل المرضى وخصوصا الفقراء منهم. «ترشيد الدعم» لاطالة أمد استعمال دولار الاحتياطي في مصرف لبنان هو الحل الوحيد والأصح، ولو كان يجب أن تتم هذه «النفضة» منذ سنوات. لكن سؤال حاكم المصرف رياض سلامة عما يمكنه تأمينه للدواء من مبلغ الـ800 مليون دولار الذي يدعي أنه المتبقي من الاحتياط، لا جواب عليه. يريد الحاكم أن تزوده وزارة الصحة بلائحة الادوية التي ترغب في دعمها، ليدرسها ويرى بنفسه أي أدوية يمكنه دعمها. وذلك، بلغة سلامة، لا يعني سوى هندسات دوائية بالاتفاق مع التجار. على أن النافذة الوحيدة لتنظيم هذا العمل وسوق الدواء بشكل علمي لانهاء الفوضى الحاصلة وهدر المليارات، لا يتم الا عبر اقرار قانون الدواء الذي أنهت دراسته لجنة الصحة بانتظار أن يضعه رئيس مجلس النواب على جدول الهيئة العامة.
الدراسة تنقسم حولها آراء متابعي ملف الدواء في لبنان. النائب السابق اسماعيل سكرية يراها «ترقيعاً». اما عراجي، فيعتبرها «منطلقاً جيّداً لإرساء تغيير»، أخذاً في الاعتبار ملاحظاته المذكورة أعلاه. وقد تكون بداية للمسّ بامتيازات تجار الصحة الذين أمعنوا أخيرا، رغم الانهيار الحاصل، بتخزين الدواء وتهريبه وقطعه من السوق، ليضمنوا أرباحهم التي تتضخّم منذ عقود، بحمايات سياسية وطائفية. لكن، بحسب «المرتاحين» للدراسة، تبقى العبرة في تطبيق لائحة الأدوية المحددة للدعم من وزارة الصحة وابقائها على حالها من دون تدخلات لحشوها بقوائم اضافية. التجارب ليست مشجعة في هذا السياق، فالتحدي الأساسي اليوم قبيل ضمان بقاء اللائحة على حالها، هو امرارها كما هي. ففي العام 92، جرى تحديد لائحة مؤلفة من 290 دواءً من دون أن تبصر النور، كذلك في العامين 1996 و2000… وصولا الى العام 2004 حين حال التجار دون عقد اجتماع للخروج بلائحة ما. ويفترض التذكير أيضا بمحاولة سكرية القفز فوق كارتيل الأدوية لشراء أدوية السرطان من دولة الى دولة، بما يخفض 50% من سعره، لكن المجلس النيابي برمته منع تحقيق ذلك. وهذا الخيار كان يجب أن يلقى أولوية من وزير الصحة حمد حسن، بالاضافة الى حاجة ملحة لتعديل اتفاقات لبنان الدولية التي تضر به، اذ ثمة بلدان تمنع استيراد أدوية من لبنان (كالأردن) فيقتصر التعامل معها على الاستيراد منها!