«المسابح الشعبية» مصطلح لم يعد رائجاً في لبنان ولا معروفاً من قبل أجياله الشابة وذلك بعد أن صودر أكثر من 80% من الشاطئ اللبناني ولم يتبقَ منه إلا 20% فقط متاحاً للعموم. وما عاد معظم الشواطئ العامة خاضعاً تنموياً لأية وزارة أو مديرية في الدولة اللبنانية. شواطئ متروكة مهملة، قليلها تشرف عليه البلديات وتفتحه أمام الرواد بشكل منظم وكثيرها متروك بلا مراقبة مرتعاً للمجارير والنفايات أو مستثمراً من قبل أفراد بغير وجه حق.
الشواطئ العمومية في لبنان التي يمكن أن تشكل ثروة سياحية وثقافية وترفيهية واقتصادية تبدو اليوم في غربة عن هذا الواقع. والشاطئ العام الذي يعتبر جوهرة التاج في البلدان السياحية المجاورة مثل قبرص وتركيا واليونان هو في لبنان خيار ثانٍ أو ثالث لا يدخل ضمن أي استراتيجية لاجتذاب السيّاح ولا يشكّل المقصد الطبيعي للبنانيين الذين خاصموه في زمن العز الزائف. بعض الشواطئ الرملية من هنا وهناك نجح في امتحان التنظيم والاستثمار الذكي المفيد كما نجح بعض الجمعيات البيئية في حماية الشواطئ العامة من زحف النفايات والأوساخ.
بين الروّاد والبلدية فائدة معمّمة
شواطئ صور وجبيل والبترون وعمشيت نماذج ناجحة عمّا يمكن أن تكون عليه الشواطئ العمومية وتجربة مربحة للروّاد والبلديات والمشغلين.
في جبيل البلدية مسؤولة عن ثلاثة شواطئ عامة تقع ضمن نطاقها: شط البحصة، شط الرمل وشط الشامية وهو محمية طبيعية. دخول الرواد إلى هذه الشواطئ وفق ما علمنا من مسؤولي البلدية مجاني بالطبع ويتم من خلال شرطي بلدي يقف عند مدخلها للتأكد من عدم وجود السلاح مع الداخلين أو من كمية المشروب التي يسمح بإدخالها منعاً لحدوث مشاكل وكذلك ليمنع إدخال الأراكيل والمناقل حفاظاً على راحة جميع الرواد. وتقوم شرطة البلدية بالتأكد من عدم اعتداء المسابح الخاصة المتداخلة مع الشاطئ العمومي على رمل الشاطئ والتراجع عنه إلى المساحة المفروضة عليها. وتستثمر بلدية جبيل الشاطئ الرملي من خلال تأجير مساحات معينة منه إلى أفراد يقومون بدورهم بتأجير الشماسي والكراسي للرواد وتفرض البلدية على هؤلاء أن يشغّلوا « سبّاح إنقاذ» Maitre Nageur في المساحة المخصصة لهم وهي تهتم بنظافة الشاطئ بالتنسيق مع مستثمريه أي أنها تؤمن الأكياس لجمع النفايات ونقلها فيما يقوم كل مستثمر بتنظيف المساحة المخصصة له. وتتنقل شرطة البلدية خلال النهار لمراقبة سير الأمور على الشاطئ ومراقبة الأسعار وقد وضعت خطاً ساخناً ليتم الاتصال به في حال حدوث أي مشكل. لكن البلدية غير مسؤولة عن الروّاد و كل شخص مسؤول عن نفسه في هذا الشاطئ. بلدية جبيل تعمل بالتنسيق مع شرطة الشواطئ المسؤولة عن إعطاء الرخص والسماح للبلديات باستثمار الشاطئ. لكن حسبما عرفنا لا تؤدي شرطة الشواطئ دوراً مهماً في الحفاظ على الشواطئ العامة أو مراقبة سلامتها وأمنها ويتركز دورها على قمع المخالفات والتعديات على الشواطئ أي عدم إنشاء أي بناء عليها دون نيل رخصة.
على شاطئ جبيل تبدو الأمور مضبوطة إلى حد ما، لكن بالنسبة للنظافة والتنظيم ومراقبة الأسعار لا تزال بعيدة جداً عن المرتجى ورغم ذلك صار الشاطئ الرملي ملاذاً لفئة الشباب بشكل خاص وللعائلات التي صارت كلّها منخفضة الدخل ويمكن أن يتواجد فيه خلال عطلة نهاية الأسبوع ما يزيد عن ألف شخص…
من التجارب الناجحة الأخرى التي امتدّ صيتها على مساحة الوطن وصارت مقصداً للبنانيين كما السيّاح الأجانب شاطئ مدينة صور الرملي. فالشاطئ جزء من محمية طبيعية مقسمة إلى ثلاث مناطق تستثمر بلدية صور المنطقة السياحية منها بعد موافقة وزارة البيئة.
على هذا الشاطئ الرملي المفتوح للعموم نُصبت 50 خيمة تقوم البلدية بتأجيرها لقاء رسوم تغطي قسماً من الخدمات التي تؤمنها وهي وفق ما يشرحه لنداء الوطن رئيس بلدية صور حسن دبوق تأمين الحراسة والقيام بأعمال التنظيف من جمع النفايات ونقلها و»غربلة الرمل» كما كانت سابقاً قبل الأزمة المالية تؤمن نظام صرف صحي يضخ على الشبكة العامة مع صيانة للمضخات لكن اليوم صار مستثمرو الخيم يدفعون عقد الصيانة مقابل عدم تحميلهم نفقات إضافية وزيادة الإيجار عليهم بشكل كبير. وتتولى البلدية تأمين سبّاحي الإنقاذ ودفع أجورهم وقد قامت بتأمين وحدة صليب أحمر متطوعة مع سيارة إسعاف وخصصت غرفة إنعاش على الشاطئ مزوّدة بالمعدات اللازمة وذلك لمنع حدوث حالات وفاة نتيجة الغرق وبالفعل لم تعد حالات مشابهة تحدث على الشاطئ لا سيما مع وجود أبراج مراقبة وأعلام تحدد نسبة الخطر. وتقوم شرطة البلدية بمنع دخول المتسولين كما تقوم بجولات لمنع حدوث مشاكل.
والخيار متروك للرواد إما بالبقاء في“«شط الخيم» أي المخصص للأكشاك مقابل بدل أو تناول الطعام فيها وإما الاستفادة من 600 متر من الشاطئ الحرّ بشكل مجاني تماماً. لا تشرف البلدية بشكل مباشر على الأسعار التي تعتمدها الأكشاك بالنسبة للطعام والشراب لكن يؤكد رئيس البلدية أن الأسعار المعتمدة لا تقارن بأسعار المسابح الخاصة ويذهب 60% منها كلفة تأمين التيار الكهربائي للأكشاك.
هذه الصورة المثالية لشاطئ صور هل يمكن أن يعكّرها تلوث مياه البحر كما هي الحال في العديد من الشواطئ الأخرى؟ على الشاطئ نقطتان ثابتتان يتم رصدهما باستمرار ومراقبتهما من قبل المركز الوطني للبحوث العلمية وتشير النتائج إلى عدم وجود تلوث فيهما ولا سيما أن الرياح غالباً ما تجرف الملوثات شمالاً، ولسبب آخر بعيد عن المؤثرات الطبيعية هو وجود قرار سياسي واضح من قبل القوى السياسية في المنطقة بعدم السماح بأية تعديات على الشاطئ وهو الأمر الذي حفظه وساهم في تحويله إلى محمية أبقت لأهل الجنوب وللبنان متنفّساً أزرق نقياً.
أكثر من 15000 شخص «إنتشروا» في عطلة نهاية الأسبوع على شاطئ صور رغم كلفة التنقل المرتفعة والتوقعات بانخفاض عدد الرواد. لكن يبدو أن البحر المجاني لا يزال المتنفس الوحيد أمام اللبنانيين في عزّ أزمتهم.
تلوث وإدارة مفقودة
الناقورة، الزرارية، جل البلح، الغازية أسماء لشواطئ جنوبية تختلف فيها نسبة التلوث والنظافة باختلاف نسبة التعديات الواقعة عليها ونسبة اهتمام البلديات بها. أما شاطئ الرملة البيضا في بيروت أجمل شواطئ العاصمة والمفترض أن يكون درتها البحرية فقد شهد حروباً ضروساً بين فئات متعددة (لن نأتي على ذكرها الآن) حرفته عن دوره الأساسي كشاطئ عمومي مجاني ورئة لأهل بيروت وحوّلته الى ما يشبه المسابح الخاصة من خلال إجراءات لا تصبّ في مصلحة روّاده بل في صالح مستثمري الجلسات والمقاهي فيه إلى أن اتخذ القرار بعودة الشاطئ الى كنف بلدية بيروت لتفتحه بشكل مجاني تماماً أمام كل رواده بعد تجهيزه باللوازم اللوجستية والبشرية للحفاظ على راحة الرواد وسلامتهم.
لكن هذا الشاطئ الذي تتهافت الجمعيات على تنظيفه ورغم اسمه وشكله لا يعتبر مثالياً للسباحة واستقبال الرواد لأنه مصب لمجارير المنطقة ومياهها الآسنة. وفي هذا الصدد تقول دارين صالح الناشطة البيئية منذ أكثر من 15 عاماً والمتخصصة في التواصل الرقمي والحكم في مبادرة Swim Initiative أنها ووفقاً لخبرتها البيئية تعرف جيداً أن نقطة الرملة البيضا هي من أشد النقاط تلوثاً لأن العديد من فوهات المجارير تصب فيها لكنها تقول «نحن ننظف التلوث العيني الذي نراه سواء على الشاطئ أو في عمق المياه ونهدف الى تعميم فكرة الحفاظ على نظافة الشواطئ وشعارنا «ما تروح على البحر وترجع إيدك فاضية». المبادرة التي أقوم بدور الحكم فيها تهدف الى تشجيع الأفراد والفرق والشركات على المساهمة في تنظيف الشواطئ رغم صعوبة إزالة كمية النفايات الموجودة على الشاطئ أو في البحر وتعميم ثقافة المشاركة في تنظيف الشواطئ ومجاري المياه لنساهم في بناء الإنسان قبل القوانين»
بدوره يؤكد السيد نبيل عواد أحد مؤسسي مبادرة Sustainable Waste Intercity Marathon(SWIM) أن فكرة تنظيف الشواطئ العامة بدأت عبر معاناة شخصية خاضها مع مرض سرطان الرئة وأراد أن يثبت خلال صراعه مع المرض أنه لا يزال قادراً على السباحة وممارسة نشاطه الرياضي الطبيعي لكنه أدرك حينها وبعد عودته الى بيروت من غربة طويلة أن البحر وسخ ويحتاج إلى تنظيف وهكذا وبمبادرة فردية منه مع زميلة له هي ليزا صفيان بدآ بتنظيف النقطة المقابلة للنقطة التي سيسبحان فيها بعد أن أدركا أن اللبنانيين لا يستفيدون من الشاطئ بشكل كاف لأنه غير نظيف. وهكذا خطرت فكرة تنظيم حملة نظافة من الناقورة إلى عكار يقوم فيها المشاركون بالسباحة لخمسة كيلومترات يقابلها تنظيف مساحة مماثلة من الشاطئ العام. ويقول عواد «اتصلنا بالبلديات لمساعدتنا بعضها استجاب وبعضها كان غائباً كلياً وتجاوب معنا عدد من الجمعيات والجامعات وكان الأبرز تجاوب الجيش اللبناني والدفاع المدني والصليب الأحمر ومن 40 متطوعاً بداية وصل العدد الى حوالى 2700 متطوع في طرابلس. وكان التحدي الأكبر ليس فقط جمع النفايات عن الشواطئ العامة بل نقلها وفرزها وإعادة تدوير ما أمكن منها».
يعرف عواد وبحسب تقارير سنوية لـ CNRS نقاط التلوث على الشاطئ اللبناني من الجنوب الى الشمال لكنه يقول إن الجمعيات غير قادرة على القيام بإجراءات للحد منها لكنها قادرة على توعية الناس على أهمية المشاركة في تنظيف الشواطئ لأن من يلم مرة لن يرمي مرة أخرى أبداً.
وبحماسة يروي عواد عن تجربة رائدة سوف يتم إطلاقها هي شاطئ عمشيت النموذجي بالتعاون مع تعاونية صيادي السمك حيث ستقوم التعاونية بزيادة ألفي ليرة على مبيع كل كيلو سمك وذلك لتأمين كل مستلزمات التنمية المستدامة لشاطئ عمشيت وجعله مفتوحاً مجاناً للرواد ليستمتعوا فيه بأنظف شاطئ وأفضل خدمات بأسعار مقبولة جداً.
ختاماً ألا يستحق اللبنانيون شواطئ مجانية تليق بهم؟ وهل يمكن لمديرية الشباب والرياضة أن تعود للعب دورها القديم في إدارة المسابح الشعبية لتكون الوجهة السياحية الأفضل للبنانيين المفلسين في الصيف؟