يتلقّى اللبنانيون يومياً تطمينات من مسؤولين لبنانيين، بأن لا أزمة مواد غذائية، لا أزمة بالقطاع الاستشفائي ولا بالأدوية ولا بالقمح أو المحروقات في حال توسّعت الحرب. فالمواد الأساسية تكفي لاستهلاك اللبنانيين على مدار ثلاثة أشهر متواصلة. ولكن هل يمكن أن ينسى اللبنانيون طوابير الخبز والبنزين والأدوية خلال السنوات القليلة الماضية؟ وهل نسوا فقدان المواد الأساسية نتيجة احتكارها وتخزينها من قبل تجار الأزمات ومستوردي البضائع والمافيات المتجذّرة في كل القطاعات؟ وهل يجهل اللبنانيون أن السلطة التي تزرع الوعود اليوم لم تحاسب أي من المرتكبين الذين تلاعبوا بصحة ولقمة المواطن خلال أزمة العام 2019 المستمرة؟
ثم كيف يمكن للبنانيين أن يطمئنوا لخطة طوارئ وضعتها الحكومة تحسّباً لتوسّع الحرب، في ظل انعدام قدراتها المالية لتنفيذ تلك الخطة. وليس من شأن هذا الكلام أن يزيدنا إحباطاً إنما لنستعيد واقعيتنا المبنية على تجارب غير مبشّرة لم يمض عليها زمن. فالسلطة التي عجزت عن إدارة الأزمات خلال السنوات القليلة الماضية، تنصّب نفسها اليوم لإدارة مفاعيل حرب لا يعلم أحد عن مداها وتداعياتها.
الخبز والغذاء… بخطر!
يخرج المسؤولون بشكل شبه يومي ليطمئنوا اللبنانيين على أمنهم الغذائي والدوائي والاستراتيجي عموماً، بما فيه المحروقات والقمح، كمواد أساسية يجدر على الدولة اللبنانية أن تضمن وصولها لكافة المواطنين في حال اتساع رقعة الحرب. ولكن تلك الإطلالات لا تتعدى كونها شعارات أو ربما أمنّيات غير واقعية قطعاً. فلا يجدر باللبنانيون أن ينسوا ما حلّ بأمنهم الغذائي والدوائي خلال السنوات القليلة الماضية.
فالتطمينات التي يكرّرها يومياً وزير الاقتصاد والنقابات المعنية باستيراد وتخزين وتوزيع الطحين، بأن مخزون القمح كاف وأن اللبنانيين سيحصلون على الخبز في حال الحرب، لا أساس لها. فمجمل مخازن المطاحن تحوي اليوم ما لا يزيد عن 80 ألف طن من القمح، من المفترض أن تكفي للاستهلاك على مدار نحو شهرين ونصف الشهر، باعتبار أن حجم الاستهلاك الشهري يبلغ نحو 30 إلى 35 ألف طن من القمح. لكن حجم استيراد القمح بلغ عام 2022 قرابة 50 ألف طن شهرياً، في وقت كان يصطف فيه اللبنانيون طوابير أمام الأفران طلباً لربطة الخبز. فالكميات المخزّنة لا تعني شيئاً في ظل الاحتكار والتخزين.
وكما القمح كذلك المواد الغذائية. فالتأكيدات الرسمية الصادرة عن وزارة الاقتصاد ونقابة مستوردي المواد الغذائية بأن الكميات المستوردة تكفي لفترة ثلاثة أشهر، في حال تعطّل حركة الإستيراد، لا قيمة لها. فالمواد الغذائية خلال الأعوام السابقة لاسيما منها 2020 و2021 وحتى 2022 لم تكن بمتناول جميع اللبنانيين والمواد الأساسية كالزيت والأرز والحبوب شهدت تهافتاً غير مسبوق ودخلت أسعارها السوق السوداء. وليس هذا فحسب، فقد ضُبط تجار ومستوردين يخزّنون البضائع ويتلاعبون بأسعارها. كما شوهدت عمليات تهريب لكميات كبيرة من الزيت والمواد الغذائية إلى سوريا عبر المعابر غير الشرعية.
الدواء والبنزين أيضاً
وإذا كان الأمن الغذائي عرضة للخطر فإن الأمن الدوائي قد يواجه مخاطر أكبر وأعمق. وللبنانيين تجارب قاسية في ملف الدواء والصحة عموماً، لم تنته حتى اليوم. وقبل أن يصدّق اللبنانيون إعلان وزارة الصحة ومستوردي الأدوية بأن مخزون الأدوية يكفي لـ4 أشهر، لا بد من تذكيرهم ببعض الأرقام. استورد لبنان أدوية عام 2019 بقيمة 775 مليون دولار، أما في العام 2020 فبلغت فاتورة الأدوية قرابة 1.2 مليار دولار، أي بارتفاع كبير جداً وغير مبرّر. وفي الوقت عينه شهد المرضى فقداناً لمئات الأصناف من الأدوية لاسيما أدوية الأمراض المزمنة، ووقفوا طوابير أمام الصيدليات، ليتبيّن لاحقاً أن صيدليات ومستودعات ومستوردين كانوا ضالعين بعمليات احتكار وتخزين الأدوية، ولم تتم محاسبة أي منهم أمام القضاء اللبناني حتى اليوم.
وعن نقابة مصانع الأدوية في لبنان، التي أعلنت مؤخراً أنها تعمل ليلاً ونهاراً لتأمين حاجة السوق اللبناني من الأدوية الأساسية والمزمنة، ومن الأمصال اللبنانية، لتأمين 100 في المئة من حاجة المستشفيات، فلا بد من العودة إلى السنوات القليلة الماضية حين شهدت السوق اللبنانية نقصاً بالأمصال اللبنانية، ليتبيّن بأن بعض المصانع تعمل على تصديرها إلى الخارج وحرمان السوق المحلية من حاجتها.
أما حال مخزون البنزين وعموم المحروقات، فيبقى الأسوأ والأكثر خطراً، على الرغم من طمأنة نقابة مستوردي المحروقات بأن المخزون يكفي شهرين في حال توقف عمليات الاستيراد. وكيف يمكن للبنانيين أن يطمئنوا وقد عانوا الأمرّين في الأعوام السابقة من نقص البنزين والمازوت، ووقفوا على مدار أشهر في طوابير أمام محطات المحروقات يتوسّلون بضعة ليترات من البنزين في وقت كان حجم استيراد المحروقات مرتفعاً جداً.
وقد استورد لبنان عام 2020 نحو 3.2 مليار دولار مشتقات نفطية، وارتفعت الى 3.8 مليار دولار عام 2021، مع استمرار التخزين والاحتكار وطوابير الذل التي أحدثها تجار الأزمات في لبنان.
الطوابير بانتظارنا!
تتباهى الحكومة بأنها عالجت نقاط الضعف في مصادر الطاقة، كالمحروقات والكهرباء والإنترنت، وأمنت مخزون القمح والدواء والمواد الغذائية، لكن كل تلك التطمينات من شأنها أن “تتبخّر” بلحظة واحدة، حين يلمس التجار خطورة الوضع في حال اتسع نطاق الحرب. فلا رادع لهم ولا لاجم.. يستثمرون بالأزمات كما فعلوا دوماً خلال الأعوام القليلة السابقة ويتاجرون بحاجات اللبنانيين من دون أي حساب أو عقاب.
وليس الخوف من تجار الأزمات فقط، فالبلد برمّته لا يزال في صلب الأزمة المالية- الاقتصادية، إذ لم يشهد أي خطة تعافٍ حتى اليوم. وفي وقت يعجز فيه عن لملمة أشلاء اقتصاده، تدّعي حكومته بأنها باتت جاهزة لأي طارئ. وهي في واقع الأمر عاجزة عن حماية أمن مواطنيها الاستراتيجي من اللحظة الأولى لوقوع الحرب، وستعجز حتماً كما عجزت دوماً، عن تجنيب مواطنيها طوابير الذل للحصول على ليترات من البنزين أو ربطة خبز أو ربما علبة دواء.