آخر ما كان يتوقعه اللبنانيون هو ذهاب مسؤوليهم للتفاوض مع صندوق النقد الدولي منقسمين. قادة الجبهة الامامية المنوط بهم الدفاع عن الوطن وخطوط صموده الخلفية مختلفين جوهرياً، لكل واحد منهم رؤيته أرقامه ومقاربته للحل.
الخلاف في الشكل الذي برز جلياً في ظل غياب حاكم مصرف لبنان عن جلسة المفاوضات الاولى، يخفي في مضمونه ما هو أخطر بكثير. فالمقاربة الحكومية تقوم على “تصفير عداد” القطاع النقدي المتمثل في المصرف المركزي والبنوك التجارية، وتحميل المودعين الخسائر عبر الاقتطاع من الودائع “Bail in”. والأخطر انها تحاول “المس بالهوية ودور القطاع الخاص القائم على الطبقة الوسطى، والمسؤول تاريخياً، منذ اواسط القرن الثامن عشر، عن نهضة لبنان، أيام تجارة الحرير ومطبعة مار مطانيوس قزحيا”، يقول رئيس تجمع رجال الاعمال اللبنانيين فؤاد رحمة.
إحتساب الكلفة بعد الإصلاحات
في المقلب الآخر يشدد مصرف لبنان والقطاع الخاص على ان الكلفة الاجمالية لا يمكن تحديدها بدقة وموضوعية قبل إصلاح المالية العامة ومكافحة العجز في الموازنة، وترشيد المصاريف وتحسين الجباية والانطلاق بخطة واضحة، تحدد أرقام المصارف وليس نسبها المئوية، وبدء المفاوضات مع الدائنين. هذا بالاضافة الى تشديد حاكم مصرف لبنان الدائم، على انه لا يمكن اعتبار الـ 83 مليار دولار المتبخرة من “المركزي” هي خسائر يجب تعويضها فوراً من اموال المودعين عبر “Haircut” أو “bail in”. فهذه الارقام بحسب طريقة عمل المصارف المركزية تدخل من ضمن المطلوبات وليس الموجودات، وهي تعني ديناً طويل الاجل لأكثر من 20 وحتى 30 عاماً على المركزي للمصارف التجارية.
المسؤولية على الجميع
في ظل مأساة لبنان وزيادة الضغط العالمي على التمويل فان الجلوس الى طاولة “صندوق النقد الدولي” يتطلب الكثير من الوعي، وان لا تظهر الحكومة “كوكيلة تفليسة” بحسب البيان الصادر عن “تجمع رجال الاعمال اللبنانيين”. بل عليهم “رسم الخطوط العريضة لاستمرار البلد وتأمين مستقبله. فالدولة في النهاية هي التي استدانت وصرفت الاموال. لذلك وجب عليها تحمل مسؤولية تسديدها بدلاً من رمي المسؤولية على المصارف والمودعين”.
في الوقت الذي لا يخفي فيه احد ان هناك كلفة حقيقية باهظة، فان الصراع الدائر اليوم هو على من ستقع مسؤولية تحملها. الحكومة ترميها على المصارف، مرة بالتوقف عن تسديد الديون ومرة بالاقتطاع من حسابات المودعين. والمصارف بدورها تحمّلها للدولة بصفتها المدينة.
هذا الصراع الذي حمل الى طاولة المفاوضات مع صنودق النقد الدولي يعتبره رحمة “أساس المشكلة”. ويرى فيه تجنياً كبيراً على القطاع الخاص. فسياسة تثبيت سعر صرف العملة التي استنفدت الدولار من المصارف عبر موافقة ممثلي الشعب كل الشعب وتوقيعهم على الموازنات، حماية للسلمين الاجتماعي والاهلي وتأميناً للرفاه اللبناني، تفترض مساهمة الجميع بتحمّل المسؤولية عبر الـ “bail out”، أو ما يعني استعمال اصول الدولة لاطفاء الخسائر الماضية والمساهمة بإعادة رسملة القطاع المصرفي”. أما الحديث عن تضييع حقوق الاجيال القادمة فهو شعبوي يفترض أولاً بحسب رحمة ضرورة “تأمين صمود الاجيال الحالية، ليكون لدينا مستقبل وأجيال لاحقة. فالطريقة التي تدار بها اللعبة ستقضي على محركات النمو والاستقرار وتذهب بلبنان إلى الحضيض”.Bailin VS Bailout
باختصار فان “خطة التعافي الحكومية” تقوم على نظرية Bailin عبر الاقتصاص من المودعين وتدمير القطاع المصرفي وخلق بديل يتكوّن من 5 مصارف جديدة، بدلاً من “Bail out” واستعمال أصول الدولة لتخفيف الخسائر. من دون أن يعني هذا بالتأكيد التفريط بالممتلكات العامة وبيعها. بل يتم عبر الدخول بشراكات مع القطاع الخاص، تفعّل دور المؤسسات الجديدة الناشئة، وتزيد انتاجيتها مع الابقاء على الحصة الأكبر للدولة. ولعل “ليبان بوست” هي المثال الابرز والأدق لأهمية ادارة القطاع الخاص لمرافق الدولة، بما ينقل النوعية والخدمة والحجم، الى مستويات جديدة تؤمن مصلحة الجميع. هذه النية المخفية بالاقتصاص من القطاع الخاص يبررها عدم تحديد فترة زمنية للمباشرة بالتدقيق على ميزانية مصرف لبنان واجراء “AQR assets quality review “على المصارف التجارية. خصوصاً ان نتائج اجراء التدقيق حالياً ستظهر نتائج مختلفة كلياً عن اجرائها بعد المباشرة بالاصلاحات والتفاوض مع الدائنين. وعلى سبيل المثال لا الحصر فان سند “اليوروبوندز” المقيّم حالياً بـ 20 سنتاً للدولار قد يصبح بعد المفاوضات والتوصل الى نتائج ايجابية بـ 50 أو حتى أكثر.
“كائناً ما كان سبب الخلاف فيجب حله”، يقول المستثمر في الاسواق المالية الناشئة صائب الزين. “فلا يجوز ان يكون هناك اختلاف بين اعضاء الوفد الواحد الممثل للدولة اللبنانية في ظل الكارثة الاقتصادية التي نحن فيها. فتوحيد الموقف والاتفاق النهائي على الحل هو المدخل الاول للاصلاح الحقيقي المنشود قبل أي شيء آخر”.