أعد المركز اللبناني للدراسات تقريراً مطولاً عن اقتصاد المعرفة في لبنان. وتحت عنوان «نظرة على هذا الاقتصاد بشكل عام» أكد التقرير أن اقتصاديات المعرفة تتطلب عدة شروط مسبقة لتزدهر، من ضمنها:
1 – نظام ابتكار ويشمل شبكة من الجامعات ومراكز الفكر والشركات الخاصة والمنظمات غير الحكومية ومراكز الأبحاث والبلديات والنقابات، التي تتعاون معاً للعمل على المستويات المحلية والإقليمية والوطنية لإنتاج معرفة جديدة ومطابقتها مع الاحتياجات المحلية.
2 – شبكة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتي تشكل أساسا في الاقتصاد الحديث وميسّراً للنمو والابتكار عبر كافة القطاعات الأخرى. 3- بيئة مؤسسية داعمة.
وفي ما يلي أبرز ما جاء في التقرير:
مراكز متخلفة
ان الابتكار هو جهد تعاوني وتفاعلي لا يمكن تنميته الا من خلال وجود بيئة تمكينية وظروف داعمة. وتبعاً لمؤشر الابتكار العالمي العام 2015 (GII) احتل لبنان المرتبة 74 من أصل 141 بلداً وسجل 33.82 من أصل 100، (سجلت الامارات 40.06 والأردن 33.78). وفي العام 2021، تراجع لبنان من أصل 132 اقتصاداً الى المرتبة 92. وحسب الركائز السبع لمؤشر الابتكار العالمي، كان ترتيب لبنان على النحو التالي: المركز 64 في تطوير الاعمال و87 في راس المال البشري والبحوث و90 في تطور السوق و91 في مخرجات المعرفة والتكنولوجيا و 92 في المخرجات الإبداعية و 100 في البنى التحتية و 112 في المؤسسات. كما يسلط المؤشر الضوء على نقاط الضعف الرئيسية هذه في الركائز الفرعية على النحو التالي: المرتبة 129 في البيئة السياسية و 121 في فعالية الحكومة و120 في المشاركة الالكترونية. وثمة ملاحظة إيجابية حيث يسلط مؤشر الابتكار العالمي في لبنان الضوء على نقطة قوة في الصناعة الثقافية والابداعية اذ شكلت صادراتها 17% من اجمالي التجارة. وهذا ما يؤكده أيضا مؤشر المعرفة العالمي حيث احتل لبنان المرتبة الثامنة عالمياً في حجم الصادرات الثقافية والإبداعية، مما يعكس قوة البحث والتطوير والابتكار ضمن مؤسسات الثقافة والابتكار الخاصة.
الا ان هذه الصناعات تواجه تحديات كبيرة وسط الازمة الاقتصادية. فعلى سبيل المثال واجهت شركتان في القطاع الإبداعي في لبنان وهما Yayy وYallaPlay اللتان طورتا ألعابا مثال Conqueror of Realm و Domino Hit و Miss it Up تحديات كبيرة. اذ قبل عام 2020 كانت لديها أعداد كبيرة من المشتركين الفعليين بوتيرة شهرية، ولكنها اليوم تواجه مخاطر تتعلق بالدفع للخوادم والناشرين والمواهب، في حين تحصل على عوائد ضحلة. ووفق دراسة حديثة أجرتها جمعية الاقتصاديين اليورومتوسطيين فان الصناعات الإبداعية في لبنان تواجه تحديات مشتركة من ضمنها تقلص حجم الطلب في الاسوق المحلية، والاعداد الكبيرة للعمال غير الرسميين الذين لا يتمتعون بحماية صحية واجتماعية ونقص شبكات الأمان الاجتماعي للفنانين حيث تم تمرير التشريع الخاص بصندوق المساعدة للفنانين في عام 2021 الا انه لم يدخل حيز التنفيذ بعد. بالإضافة الى اللائحة القديمة بشأن حقوق الملكية الفكرية (القانون الحالي منذ عام 1999).
إخفاقات الحكومة والمؤسسات
لقد فشلت المؤسسات الحكومية اللبنانية بشكل كبير وكارثي، لا سيما إدارة البنك المركزي للقطاع المالي، لدرجة انه أصبح من المستحيل على الشركات أن تعمل بشكل عادي. وقد احتلت البيئة السياسية للحكومة المرتبة 129 من اصل 139 وفقا لـ WIPO مما يعكس امرين في عنق الزجاجة: عدم الاستقرار السياسي وعدم كفاءة وفعالية الحكومة. اما بالنسبة للبيئة التشريعية فقد حل لبنان في المرتبة 115 في الركيزة الفرعية «سيادة القانون». وقد نجم عن التقاعس المؤسسي والحوكمة والبيروقراطية والسلطة المركزية الصارمة نتائج عكسية على الإصلاح الاقتصادي في لبنان مما انعكس سلباً على اقتصاد المعرفة بعدة طرق:
1 – عدم وجود اتجاه مشترك لوضع السياسات من اجل اقتصاد قائم على المعرفة على المستوى الحكومي.
2 – نقاط الضعف في انقاذ حقوق الملكية الفكرية وهي شرط رئيسي لتعزيز اقتصاد المعرفة.
3 – عدم القدرة على تصحيح إخفاقات السوق عندما تكون بيئة ريادة الاعمال في خطر.
4 – انخفاض عام في الأداء الاقتصادي للبلاد.
وثمة فشل رئيسي آخر تجدر الإشارة اليه يتعلق بسوق العمل. فعلى مدى عقود كانت وزارة العمل اللبنانية غائبة تقريباً في تحديد المهارات المطلوبة لكل قطاع، الامر الذي لو حدث كان يمكن أن يشكل داعماً لخلق فرص العمل والاعمال الريادية. فلا تقوم الوزارة بوتيرة منظمة بإجراء مسوحات عمالية لتقييم ديناميكيات السوق، أي العرض والطلب على المهارات، وبالتالي هناك نقص كبير في التواصل والتعاون بين وزارة الثقافة والقطاع الخاص. اما قواعد البيانات الإحصائية الحالية التي تحدد احتياجات سوق العمل فهي متخلفة ويمكن اعتبارها غير موثوقة أو كافية. علماً بان بعض المنظمات الدولية قامت بهذا العمل وأظهرت أن ثمة حاجة كبيرة لمزيد من التخطيط الفعلي في سوق العمل يعالج الطلب والعرض على المهارات في لبنان، لا سيما في قطاعات اقتصاد المعرفة والإنتاج مثال الصناعات الابتكارية وتكنولوجيا المعلومات وتطوير البرمجيات.
وقد سلطت دراسة أجرتها اليونيسف في العام 2022 الضوء على العديد من الفجوات المهنية إثر فحص العديد من المؤشرات (المهن في سلسلة القيمة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والصناعة الإبداعية والقطاعات الأخرى في لبنان، وجانب العرض الحالي للمناهج الدراسية والمهن والمهارات اللازمة على جانب الطلب والمهارات الشخصية والمتقاطعة اللازمة). وأوضح التقرير، على سبيل المثال، الفجوات المهنية في انترنت الأشياء والبيانات الضخمة والحوسبة السحابية والتسويق الالكتروني وشبكات سيسكو والمهارات الشخصية ومنها مهارات التواصل والتخطيط وإدارة المشاريع. وهذا يشير الى أن نظام التعليم في لبنان غير قادر على توفير المهارات الرقمية اللازمة في سوق العمل وعاجز عن تشجيع وتطوير أنشطة الابتكار واقتصاد المعرفة لا سيما في سياق الازمات الحالية. بالإضافة الى ذلك، فان غياب الامن الاجتماعي في عدد من القطاعات يضاف اليه عدم وجود أجور ورواتب عادلة بسبب انخفاض قيمة العملة هو أيضا عائق رئيسي. اذن، يتطلب النمو في اقتصاد المعرفة قوى عاملة مؤهلة لدعم الجهود المبتكرة في مختلف القطاعات.
البنية التحتية
بشكل عام، تشمل البنية التحتية الوطنية توفير شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية وتوفير الطاقة ووصلات النقل. وفي لبنان، انهارت جميع هذه القطاعات الفرعية نتيجة نقص الوقود والممارسات الفاسدة والأسواق السوداء. وفي العام 2022 احتل لبنان المرتبة 139 من اصل 154 دولة على مستوى العالم في ركيزة البيئة التمكينية مقارنة بالمرتبة 111 من اصل 138 دولة في العام 2021 وفقاً لمؤشر المعرفة العالمي 2021. وتعاني الشركات والاسر منذ ثلاث سنوات حتى اليوم من محدودية انتاج الكهرباء وأثر ذلك على الاتصال بالأنترنت. وفي العام 2020 احتل لبنان المرتبة 161 من بين 177 دولة من حيث سرعة اتصال النطاق العريض (انترنت) وفقا لمؤشر Speed Global Index. وفي العام 2019 احتل لبنان المرتبة 95 من اصل 141 دولة في اعتماد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وفقاً لتقرير Global Competitiveness. ان ضعف البنية التحتية الى جانب الفساد وهيكل السوق الاحتكاري لمقدمي الاتصالات السلكية واللاسلكية يجعل خدمة الانترنت غير كافية ومكلفة نسبياً. وعلى عكس معظم دول العالم، تسيطر الحكومة في الغالب على قطاع الاتصالات من خلال وزارة الاتصالات التي تقيد المنافسة وتتميز بسوء الإدارة. وفي ما يتعلق باشتراكات الخليوي، احتل لبنان المرتبة 129 من اصل 141 دولة بينما احتل المرتبة 128 من أصل 141 دولة في قطاع الانترنت الثابت الواسع النطاق.
وفي استطلاع أجرته Konrad-Adenauer-Stiftung Foundation في لبنان، أفادت جميع الشركات الناشئة التي شملها الاستطلاع تقريباً ان انخفاض جودة خدمات البنية التحتية قد أثر على انتاجيتها. وبالمثل، اشتكت حاضنات أعمال خدمات الدعم والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات التعليمية بالإجماع من إخفاقات البنية التحتية التي تحد قدرتها على العمل بفعالية. ومع ذلك، تكشف دراسة أجرتها منظمة العمل الدولية حول تأثير الازمة على سوق العمل اللبناني ان هناك إمكانات كبيرة للوظائف والشركات وفرص الاستثمار في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في لبنان، وفي الواقع توفر تكنولوجيات المعلومات والاتصالات أداة قوية للابتكار ولكن هذه الأدوات لا يتم تسخيرها بشكل فعلي في لبنان. وهو عامل يضعف النظام البيئي لريادة الاعمال ويحد من الانتعاش المحتمل في الاقتصاد القائم على المعرفة. ومع ذلك، فان العقبة الرئيسية التي تقوض تعزيز تكنولوجيا المعلومات والاتصالات واقتصاد المعرفة في لبنان هي هجرة الادمغة. ففي العام 2018، احتل لبنان المرتبة 105 من الصل 137 في العالم من حيث قدرة البلاد على الاحتفاظ بالمواهب. واليوم فان الوضع الاقتصادي الراهن والرواتب المنخفضة يشكلان المحرك الرئيسي في هجرة الادمغة. وكشفت الموجة الأخيرة من الهجرة زيادة بنسبة 4.5 مرات أكثر في اعداد المهاجرين من لبنان بين عامي 2020 و2021 مدفوعة بشكل أساسي بمعدل بطالة مرتفع بين الشباب بلغ 47,8% أي ما يقارب ضعف معدل البطالة بين البالغين والبالغ 25,6%. بالهجرة نفقد مجموعة من المواهب الأساسية والضرورية لدفع الابتكار وتكامل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
تمويل غير مستدام ويفتقد للشفافية
في العام 2014، اصدر البنك المركزي اللبناني التعميم رقم 331 الذي ضخ 400 مليون دولار في سوق الشركات اللبنانية وقد ضمن هذا التعميم 75% من الاستثمارات المصرفية في اقتصاد المعرفة من خلال الاستثمار المباشر في أسهم الشركات الناشئة أو كيانات دعم الشركات الناشئة غير المباشرة. ويقال ان هذا التدخل قد حسن النظام البيئي التكنولوجي والاعمال الناشئة في لبنان. ومع ذلك يبقى من المشكوك فيه ما اذا كان مستداماً واستراتيجياً وشفافاً وقادراً على التعويض عن الأرضية الاقتصادية الصلبة اللازمة لازدهار الشركات وان تحتفظ الدولة برأس مالها البشري.
لا حوافز للبحث والتطوير
بالنسبة لجميع القطاعات الاقتصادية تقريباً اليوم، ولا سيما تلك التي تحتاج الى مدخلات رقمية لتطوير أعمالها، فان الاستثمارات في البحث والتطوير ورأس المال البشري هي مسألة حياة او موت. اين يقف لبنان في البحث والتطوير؟ فعلى عكس العديد من الدول، لم يعترف لبنان بعد بأهمية الحوافز الضريبية في دعم الابتكار وتنمية اقتصاد المعرفة. وفي جلسة نقاش اجراها المركز اللبناني للدراسات (LCPS)، أعرب المشاركون عن حاجتهم الى توفير الضرائب للاستثمار في البحث والتطوير بطريقة تساعد أعمالهم على أن تصبح ابتكارا في نماذج أعمالهم. في حين ان الحكومات على مستوى العالم تمنح عادة خصومات ضريبية لتشجيع البحث والتطوير وبناء القدرات الابتكارية للأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة، الا ان مثل هذه المخططات غائبة في السياق اللبناني. وعلى الرغم من ذلك، كانت التدخلات الحكومية المتواضعة الوحيدة في لبنان واضحة في توفير الأموال للمركز الوطني للبحث العلمي (CNRS). بالإضافة الى ذلك، تم تقديم مبلغ صغير (3.2 ملايين دولار) في العام 2016 يستهدف نمو نظام بيئة الاعمال الناشئة ويضمن البنك المركزي نسبة 75% من ذلك التمويل. وهذا المبلغ الذي يهدف الى تحسين تنسيق البحوث في لبنان قد تم توجيهه بشكل أساسي في ذلك الوقت من قبل مركز الأبحاث الدولي التابع لمركز التكنولوجيا البريطاني اللبناني (IRC) كتمويل من حكومة المملكة المتحدة للمبادرة في العام 2016. وأيضا يقدم المركز الوطني للبحث العلمي منحاً بحثية لمدة عامين تتراوح قيمتها بين 20,000 و40,000 دولار من خلال مذكرات تفاهم موقعة من ثماني جامعات في لبنان.