لم تغلب الأزمة الاقتصادية السيغار. لم يتب كثيرون عن أحد أبرز مظاهر الـ«لايف ستايل»، فتحايلوا على ارتفاع أسعارها العالمي وتراجع قدرتهم الشرائية، بالتحوّل من الكوبي إلى الإكوادوري والكاريبي والهندوراسي… بدائل أبقت لبنان في لائحة أكبر المستهلكين للسيغار حول العالم نسبة إلى عدد السكان، وإن تراجع عن المرتبة الأولى
لم يكن سهلاً على أصحاب شركة Phoenicia trading التحوّل عن السوق الكوبي لتأمين كميات كافية من السيغار إلى زبائنهم. على مدى 45 عاماً، كانت كوبا تؤمّن حاجات الشركة حتى أصبحت المستورد الحصري لـ«كوهيبا» وأخواته في لبنان والخليج وتركيا وقبرص وأوروبا الشرقية. جودة السيغار الكوبي لا منافس لها عالمياً. لكن أزمة الإنتاج في كوبا وتراجع القدرة الشرائية في لبنان أجبرا «فينيسيا» على إبرام عقود استيراد من دول أخرى في أميركا اللاتينية، كالدومينيكان ونيكاراغوا، لتعويض النقص.
يوضح المدير العملاني للشركة زياد زيدان أن تبدّل معالم السوق اللبناني بدأ نهاية عام 2019 مع بداية الأزمة الاقتصادية التي «قلّصت حجم الاستهلاك ونوعيته. من واصل شراء السيغار، انخفض حجم شرائه وانتقل من الكوبي إلى أنواع أرخص». استناداً إلى خبرة عائلته، يدرك زيدان أن كثيرين من اللبنانيين لا يهتمون بنوع السيغار بقدر ما يهتمون بـ«برستيجه» أمام الناس، و«قليلون يدقّقون ما إذا كان السيغار كوبياً أو لا». وبما أن تراجع القدرة الشرائية طال الغنيّ والفقير، فإن «الأغنياء الذين كانوا يشترون ماركات لجأوا إلى الأرخص، ومن كان يحمل علبة كاملة إلى أماكن السهر والمطاعم، صار يحمل معه سيغاراً واحداً». ويضيف زيدان لـ«الأخبار» إن «البعض تمكّن من الإقلاع سريعاً عن السيغار الكوبي إلى جنسيات أخرى، أما المحترفون الذين تراجعت قدرتهم المادية على شراء لوح سيغار كوبي بـ 40 أو 50 دولاراً، فلجأوا إلى السيغاريللو الذي يشبه السيغارة في الحجم، لكنه مصنوع من محتويات السيغار نفسها». ضاعف دخول أنواع سيغار متنوّعة في السنوات الأربع الماضية عدد التجار وعزّز المنافسة و«أدّى إلى فوضى أثّرت سلباً على النوعية». بعض التجار استغلّوا أزمة الإنتاج الكوبي والغلاء العالمي، فزادوا حجم استيرادهم من أسواق أخرى لتلبية حاجات السوق المستجدّة، ومنهم من دخل حديثاً إلى القطاع بوكالات حصرية لبيع السيغار الهندوراسي أو الدومينيكاني.
يوضح زيدان كيفية صنع السيغار، مشيراً إلى «نوعين: الـ Long filler الذي يلفّ من أوراق التبغ الكاملة يدوياً، وهو ما ميّز الأنواع الكوبية، والـ Short filler الذي يصنّع من نشارة التبغ، وهذا الأخير يكسح السوق في لبنان حالياً»، علماً أنه لا يمكن التمييز بين النوعين من حيث الشكل، لكن الفارق لدى الذوّاقة يشبه الفارق في الأسعار بين 80 دولاراً للطويل وأقلّ من دولار واحد للقصير.
تراجع لبناني
قبل 2019، كان السيغار الكوبي يشكّل بين 85 و90 في المئة من الاستهلاك في السوق المحلي. في السنوات الثلاث الأخيرة، تراجعت النسبة إلى ما بين 35 و40 في المئة، وفق بيانات «فينيسيا». وبعدما كان لبنان يحتل المرتبة الأولى عالمياً في الاستهلاك نسبة إلى عدد السكان، تراجع عام 2023 إلى المرتبة الرابعة قبل الإمارات، فيما حلّت هونغ كونغ في المرتبة الأولى، تليها إسبانيا وفرنسا.
وارتبط اسم السيغار منذ قرون بكوبا باعتبار تربتها ومناخها مكاناً مثالياً لإنتاج أجود أنواع التبغ. منذ عام 2019، ارتفع سعر المنتجات الكوبية بنسبة 35 في المئة، ما أدى الى اللجوء إلى السيغار الذي يُصنّع في دول أميركية لاتينية أخرى والصين والكاميرون وإندونيسيا. انفتاح السوق أتاح أمام المستهلكين أنواعاً كثيرة بأسعار متباينة، فباتت هناك أنواع تباع في السوق المحلي بما يراوح بين 3 و6 دولارات.
الأمين العام للتجارة في «الريجي» (التي تشرف على استيراد السيغار وتصريفه محلياً)، جورج حبيقة، قال إن السنوات الأربع الماضية كانت مختلفة عن كل المراحل التجارية والاستهلاكية التي شهدتها الإدارة منذ تأسيسها عام 1935. يعيد دخول تجار وأصناف جدد إلى عوامل عدة، أبرزها «الآلية التي اعتمدتها الريجي لدفع ثمن البضائع بعد انهيار سعر صرف الليرة أمام الدولار. إذ قُسّم السعر بالدولار بين ثلث يُدفع نقداً على سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة) وثلث يُدفع بالدولار الطازج، وثلث يدفع بالشيكات على سعر منصة صيرفة. وهذا شجع كثيرين ممن لديهم ودائع عالقة في المصارف لاستثمارها عبر الشيكات في قطاع التبغ والتنباك، وزاد تحفيزهم أن رسوم الجمرك بقيت لفترة طويلة على سعر صرف الـ 1500 ليرة»، و«بعدما كان تجار السيغار اللاتيني أقلية، صاروا أكثرية. والبعض كان يستورد بنية التهريب إلى الخارج لإعادة بيعه بأسعار مضاعفة». لكنه يتوقع بأن يشهد السوق تبدلات جديدة بعد رفع رسوم الجمرك على الاستيراد، مؤكداً أن «الطفرة في عدد التجار والأسعار الرخيصة لن تدوم طويلاً».
يسرد حبيقة نماذج من الأصناف الرخيصة التي دخلت حديثاً إلى السوق وتلاقي رواجاً، لافتاً إلى أن السعر المحدد لدى «الريجي» تضاف إليه زيادة بنسبة 12 في المئة أو أكثر قليلاً بعد تسليم البضائع لرؤساء البيع. بالمقارنة بين جداول الاستيراد منذ عام 2015 وحتى الجزء 2023، يتبيّن دخول أصناف لاتينية جديدة بأسعار رخيصة واختفاء أصناف كوبية فاخرة، وارتفاع حجم الاستيراد اللاتيني وانخفاض حجم الاستيراد الكوبي الذي يصنع منه أكثر من 70 نوعاً.
حتى منتصف 2023، استوردت الشركات مجتمعةً 4 ملايين و251 ألف قطعة، فيما بلغ الاستيراد عام 2022 خمسة ملايين و397 ألف قطعة. التباين يظهر بشكل أوضح في حصة كل شركة. استوردت «فينيسيا» في الأشهر الخمسة الأولى من هذه السنة 103 آلاف قطعة من بعض الأصناف الكوبية (لم يكن «كوهيبا» من بينها) تراوحت أسعارها بين ستة دولارات و20 دولاراً (سعر الريجي)، مثل «روميو وجولييت» و«مونتي كريستو» و«بارناغاز». في المقابل، استوردت شركة Von eicken مليوناً و500 ألف قطعة من ألمانيا بمعدل أسعار بلغ حوالي 0.13 سنت (سعر الريجي)، واستوردت شركة «فيليجير» من الدومينيكان 200 ألف قطعة بمعدل أسعار تراوح بين 0.3 سنت وستة دولارات. ومن الدومينيكان أيضاً، استوردت «إمبيريال توباكو» 360 ألف قطعة بمعدل أسعار بلغ 0.66 سنت.
عام 2022، استوردت «فينيسيا» 391 ألف قطعة كوبية، و«إمبيريال توباكو» من الدومينيكان مليوناً و536 ألف قطعة، وشركة «مانيفاكتور سيغرو» مليون قطعة من إيطاليا، تتراوح أسعارها بين 1.3 و1.35 سنت (سعر الريجي).
وفيما كانت الأصناف غير الكوبية تتراجع، كانت الحصة الكوبية تتقلص. ففي عام 2021، استوردت «فينيسيا» 593 ألف قطعة كوبية، مقابل 824 ألفاً عام 2015. التراجع الجدّي بدأ يسجل منذ عام 2017 عندما انخفض حجم الاستيراد إلى 651 ألف قطعة، و435 ألفاً عام 2019. بالتزامن، استوردت «إمبيريال توباكو» مليونين و656 ألف قطعة من الدومينيكان وبلغ سعر بعضها أقل من نصف دولار. العام المفصلي للمستوردين عموماً كان 2020 مع ظهور جائحة كورونا. شركات عدّة انقطعت عن الاستيراد، بحسب حبيقة. وبعده، بدأت تظهر أصناف جديدة. بدءاً من عام 2021، ازدهر النوع الكاريبي والهندوراسي والدومينيكاني وتراوحت أسعاره بين نصف دولار ودولارين. حتى الأصناف الكوبية التي توافرت، فقد انخفض سعرها.
كورونا والتغيّر المناخي
قبل أزمة لبنان وبعدها، تضافرت عوامل عالمية أخرى ساهمت في تقليص السوق الكوبي، بحسب زيدان. خلال جائحة كورونا، أحجم كثيرون عن تناول السيغار بسبب أثره على الجهاز التنفسي. وفي بلد الإنتاج الأول، كوبا، أدى الفيروس إلى وفاة مئات العاملين في لفّ السيغار يدوياً. ثم فعل التغيّر المناخي فعله. فهبت عواصف في غير أوانها وشبّ حريق أتى على محصول ضخم من التبغ، ما أدى إلى تلف قسم كبير من الإنتاج، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية المستفحلة في كوبا وتداعيات أزمة الطاقة على حفظ الإنتاج ونقل البضائع.
البعض أضاف الصين إلى لائحة المؤثّرين سلباً على تقلص الإنتاج الكوبي من الأسواق العالمية بعدما أنجزت صفقة مع شركة «هاباناس» المصنّعة للسيغار الكوبي أدّت إلى تحويل قسم كبير من الإنتاج إلى الصين. غير أن زيدان ينفي سلطة الصين على توزيع الإنتاج، إذ إن «لكل بلد حصّته من الإنتاج الكوبي. مع ذلك، فإنهم لا يلبّون الطلبيات التي نطلبها». ولفت إلى أن التغيّر المناخي بدأت تأثيراته تظهر قبل عام 2019، ليس في كوبا فقط، بل في دول أخرى أيضاً في أميركا اللاتينية.