تحول الكثير من اللبنانيين إلى مجال الزراعة تاركين أعمالهم السابقة أملا في تحقيق اكتفائهم الذاتي من الغذاء بعدما تدهورت قدرتهم على توفير أبسط احتياجاتهم المعيشية اليومية.
ومثل العديد من الأسر في لبنان المُبتلى بالأزمات، تحول قاسم الشريم من عامل بناء إلى مزارع في قرية نائية بجنوب البلد بعد انهيار الليرة منذ أواخر 2019 ما تسبب في نقص نشاط التشييد وارتفعت معه تكلفة الغذاء الذي يحتاج إلى شرائه في ظل أزمة قمح عالمية.
ويقول الشريم (42 عاما) لوكالة رويترز من منزله بقرية حولا في قضاء مرجعيون بالقرب من الحدود مع إسرائيل “لقد ضعنا خلال الفترة الماضية حيث لم أجد أي عمل حتى أوفر مستلزمات العائلة والآن قبلت بالعمل في الزراعة”.
ويؤكد برنامج الأغذية العالمي أن أسعار المواد الغذائية قفزت إلى 11 مثلا منذ بداية الأزمة بلبنان. وزادت السلطات تدريجيا سقف السعر الرسمي لرغيف الخبز وتنامى الخوف من نقص القمح منذ اندلاع الحرب في شرق أوروبا، وهو ما عطل شحنات الحبوب.
لكن آثار الأزمة بدت بعيدة جدا في بيت الشريم المتواضع، حيث تتوهج شرائح الشمام المزروع في حديقته والموضوع على الطاولة تحت الشمس بينما يمتلئ المطبخ بأرغفة الخبز التي خبزتها زوجته خديجة من قمح مزروع في أرضهما.
وتحولت الباحة الأمامية للمنزل إلى متجر حيث تمتلئ أكشاك خشبية صنعتها خديجة بثمار البطيخ الكبيرة وقوارير ورق العنب.
ويقول الشريم إن “الاكتفاء الذاتي يبدأ من البيت”. وأضاف “لقد كنت أشتري كل شيء من السوبرماركت أو الدكاكين ولكن اليوم لدي كل ما أحتاجه من الخضروات”.
وعلى وقع الأزمة المعيشية التي تعصف بالبلد وارتفاع كلفة المواصلات في ظل تضخم تجاوز نحو 206 في المئة وفق أرقام إدارة الإحصاء الحكومية يتخلّف موظفون في القطاع العام عن الحضور بدوام كامل إلى مراكز عملهم.
كما فقد الآلاف من العاملين في القطاع الخاص وظائفهم أو جزءا من مصادر دخلهم. واختار اختصاصيون وشباب كثر طريق الهجرة إلى الخارج مع بروز ظاهرة النزوح العكسي.
وكانت الدولية للمعلومات، وهي شركة دراسات وأبحاث وإحصاءات علمية مستقلة قد نشرت قبل أشهر دراسة أعدتها حول “الهجرة العكسية من المدينة إلى الريف” في لبنان أظهرت أرقاما مقلقة حول ذلك.
ورغم أن معدي الدراسة نفوا وجود أرقام دقيقة للعائدين من المدن إلى الأرياف لكنهم قدروا بأنها تتراوح ما بين 5 و7 في المئة من السكان.
وقدرت الدراسة عددَ المقيمين في القرى والأرياف بنسبة 25 في المئة من اللبنانيين أي نحو 1.1 مليون لبناني، كما استنتجت أن عدد العائدين يتراوح ما بين 55 و77 ألف فرد.
ولفتت الدولية للمعلومات إلى أن هذه الأعداد مرشحة للزيادة مع اشتداد الأزمة الاقتصادية وتَفشي البطالة وارتفاع كلفة المعيشة في المدن مقارنة بالقرى والأرياف.
وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية زرعت أسرة الشريم كل شيء من القمح إلى العدس والباذنجان والفلفل الحار. وتقع قطعة الأرض على ارتفاع منخفض عن سطح البحر، حيث تتوافر المياه ويجري تدويرها بانتظام لتجديد العناصر الغذائية في التربة مع زيادة عدد المحاصيل إلى أقصى حد.
ولم يكن الشريم في الأصل مزارعا، بل تعلم كيف يبني الصوبات الزراعية من مقاطع فيديو على يوتيوب وجمع النصائح والتوصيات من مزارعين آخرين.
واعتمدت زوجته خديجة (39 عاما) كذلك على التكنولوجيا في إدارة المتجر. وترسل أسعار منتجاتها يوميا إلى نساء حولا على تطبيق واتساب في التاسعة صباحا وهن يردّن برسائل يطلبن فيها ما يرغبن فيه.
والاستقرار بالنسبة إليها لا يتمثل فقط في الزراعة، فهي تشجع عملاءها على إحضار حقائب من القماش لتقليل استخدام أكياس البلاستيك وتبحث عن أساليب جديدة لحفظ الخضروات على يوتيوب.
وقالت خديجة “كل ما تسوء الأزمة، أخترع شيئا جديدا. مثلا الباذنجان المكدوس كان يبقى بكمية كبيرة فاضطررت لتحويله إلى مربى”، وقد “تمكنت من بيع كل الكمية على الفور حتى أنني لم أتمكن من تذوقه”.
ومع ذلك لم ينج مشروع أسرة الشريم تماما من آثار الأزمة اللبنانية. ويحصل منزلهما على الكهرباء التي توفرها الدولة لمدة ساعة واحدة فقط كل يوم ويحصل على أربع ساعات أخرى من مولد خاص وهو ما يحد من حجم المياه التي يتمكنان من ضخها في الحديقة.
وكانت الأمطار غزيرة في الشتاء الماضي لكن الشريم يخشى من شتاء أكثر جفافا قد يدمر محاصيل العام المقبل.
وقلل الإثنان من استخدام الفيتامينات والمبيدات لاعتبارات تتعلق بالتكلفة. وكان المزارعون قبل الأزمة كثيرا ما يشحنون منتجاتهم إلى بيروت حيث تباع بأسعار أعلى.
وقال الشريم “الآن لا توجد إمكانية لتصريف بعض كميات المنتوج في مناطق أخرى مثل بيروت بسبب التكاليف”.
ويعمل الجرار الزراعي الذي يستخدمه لحرث الأرض بوقود الديزل ويقول إنه يحصي “كل ثانية” يشغله فيها بسبب ارتفاع سعر الوقود.
لكن الشريم يتجاهل كل هذه المشاكل. ويقول “لن أعود إلى العمل في البناء. سأكمل ما بدأته في الزراعة لأنها هي المستقبل”.