الاقتصاد الرقمي أحد المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي العالمي. وبينما تؤدي المنافسة العادلة إلى تحسين مستوى التنمية العام للاقتصاد، فإن ممارسة الولايات المتحدة تسييس الاقتصاد الرقمي في مواجهة الصين تتعارض مع مبدأ المنافسة العادلة، وأن ما تسميه اليوم واشنطن بـ”النصر” قد لا يخلو غدا من الهزيمة.
يوم 15 سبتمبر دخل الحظر الأميركي على هواوي حيز التنفيذ. تحت قيود الحكومة الأميركية المفروضة لن تتمكن الشركات، بما في ذلك، تسيميس وكوالكوم، وسامسونغ، من توفير الرقائق إلى هواوي.
المعركة التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا تتوقف عند هواوي، لقد تم الأحد حظر تنزيل تطبيقي تيك توك ووي تشات الصينيين في الولايات المتحدة بسبب مخاطر تتعلق بـ”الأمن القومي”.
غير أن واشنطن تركت الباب مفتوحا أمام تيك توك، منصة الفيديوهات القصيرة التي تلقى شعبية كاسحة بين الشبان، قبل أن تمنعها تماما من العمل على أراضيها.
تهديد للأمن القومي
وعلى الفور، نددت الشركة المالكة لتطبيق تيك توك الصيني بالقرار الأميركي مؤكدة أنها قدّمت كل الضمانات لاحترام أمن المستخدمين الأميركيين.
وأوضح بيان وزارة التجارة الأميركية أن “الرئيس يترك مهلة حتى 12 نوفمبر لتسوية مشكلات الأمن القومي التي تطرحها تيك توك، وسيكون بالإمكان رفع الحظر في نهاية المطاف”.
ويأتي هذا الإعلان فيما تتعثر فيه المفاوضات مع بايتدانس، الشركة الصينية المالكة لتيك توك لبيع عملياتها في الولايات المتحدة إلى مجموعة أميركية، فيما ينفد صبر إدارة ترامب.
ويقول ترامب إن للحزب الشيوعي الصيني نية لاستخدام هذين التطبيقين لتهديد الأمن القومي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية واقتصادها.
ولدى تطبيق القرار الأميركي، سيتعين على المستخدمين التعامل مع تطبيق ذي خدمة متدنية، مما قد يجعله أقل جاذبية.
ويحظى تيك توك بشعبية كاسحة بين اليافعين والشبان، ويصل عدد مستخدميه إلى نحو مئة مليون في الولايات المتحدة ومليار في العالم.
وقدمت شركتا وولمارت ومايكروسوفت الأميركيتان عرضا لشراء أنشطة تيك توك الأميركية، لكن الشركة الأم بايتدانس رفضته.
وظهرت بعد ذلك بوادر اتفاق يجعل من شركة أوراكل “شريكا تكنولوجيا موثوقا” لتيك توك، لكن لم يكشف أي تفصيل بهذا الصدد.
وأفادت بعض وسائل الإعلام بأن شركة أوراكل المتخصصة في البرمجيات والخدمات للشركات، ستستحوذ على حصة في تيك توك لا تتعدى 20 في المئة، على أن تحتفظ الشركة الأم الصينية بايتدانس بالحصة الكبرى في المنصة.
وأبلغت شركة وولمارت التي كانت تتعامل بالأساس مع مايكروسوفت، بأنها لا تزال “مهتمة بالاستثمار في تيك توك” وأنها تواصل التباحث مع إدارة بايتدانس وأطراف أخرى معنية.
ولا تزال “لجنة الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة” المسؤولة عن مراجعة تبعات الاستثمارات الأجنبية على الأمن القومي الأميركي، تدرس عرض أوراكل فيما حذر أعضاء الكونغرس الجمهوريون من إعطاء الضوء الأخضر لاتفاق يبقي المنصة تحت سيطرة الصين.
معركة تكنولوجية
ورأت وزارة التجارة الأميركية أنه “بالرغم من أن مخاطر وي تشات وتيك توك غير مماثلة، إلا أنها متشابهة. فكل منهما يجمع كميات ضخمة من البيانات من المستخدمين”.
ومنصة وي تشات المملوكة لشركة “تنسنت” الصينية شائعة الاستخدام في الصين سواء لتبادل الرسائل النصية أو للدفع أو الحجز وسواها.
وهذه القضية هي آخر فصل من المعركة التكنولوجية الدائرة بين القوتين الاقتصاديتين الأوليين في العالم.
منذ طرح الولايات المتحدة لاستراتيجية “إعادة التوازن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ” في بداية عام 2010، مع ظهور زخم متزايد لنشأة الشركات التكنولوجيا الفائقة في الصين، بدأت بوادر الردع ضد شركات التكنولوجيا العالية الصينية مثل هواوي، وزي تياي، لاسيما أمن الفضاء الإلكتروني القائم على التكنولوجيا المتقدمة وقضايا التنمية. ومن أبرزها، قضية الأمن السيبراني بين الصين والولايات المتحدة.
وبحلول سبتمبر 2015، وصلت هذه القضية إلى نقطة عالية، متجاوزة القضايا الرئيسية التقليدية بين الصين والولايات المتحدة بشأن التجارة، ومضيق تايوان، وحقوق الإنسان.
فانغ شينغ دونغ، عميد كلية الإنترنت والمجتمع بمعهد تشجيانغ للإعلام والاتصال، اتهم الولايات المتحدة بمحاولة فرض هيمنتها على الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات. ومن أجل ردع شركات التكنولوجيا الفائقة الصينية، انحرفت تصرفات الحكومة الأميركية عن القواعد الأساسية والعقلانية العادية.
وفي هذا الصدد، فإن أفضل منظور ومؤشرات للمراقبة هي مراكز الأبحاث الأميركية الرئيسية التي لها تأثير كبير على اتجاه السياسة في البلاد، والتي يمكن أن تعكس بوضوح اتجاه السياسة الأميركية. حيث إن التقارير المختلفة حول الصين في مجال العلوم والتكنولوجيا أصبحت نقاطا ساخنة في السنوات الأخيرة.
وطالما أننا ندرس بانتظام تقارير مراكز الأبحاث الأميركية والإدارات ذات الصلة مثل الجيش، ووزارة التجارة على مدى السنوات العشر الماضية، يؤكد شينغ أن بإمكان الصين إيجاد السياق الكامل لمقاومة الولايات المتحدة عالية التقنية للصين. ومع ذلك، جعلت إدارة ترامب الولايات المتحدة أكثر تطرفا بعد دخوله إلى البيت الأبيض.
ترتبط هذه الاستراتيجية، وفق فانغ شينغ، ارتباطا وثيقا بالحفاظ على الهيمنة الأميركية، المعتمدة على ركائز متمثلة في القوة العسكرية لواشنطن، وقوة رأس المال في وول ستريت، والقوة الثقافية لهوليوود، والقوة التكنولوجية لوادي السيليكون.
وفي عصر الإنترنت، أصبحت القوة التكنولوجية الرائدة لوادي السيليكون على نحو متزايد “حجر الزاوية” للقوى الرئيسية الأخرى. لذلك، اعتبرت الولايات المتحدة أن صعود صناعة التكنولوجيا الفائقة في الصين يجلب ضغوطا وتحديات تنافسية لـ”حجر الزاوية” للهيمنة الأميركية في المستقبل.
هيمنة أميركية
تعتقد الولايات المتحدة أن هيمنتها في مجال تكنولوجيا المعلومات قد اهتزت تماما لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن. وفي ما يتعلق بأنظمة ج5 والهواتف المحمولة وتطبيقات وخدمات الإنترنت، لم تستطع الشركات الأميركية الحفاظ على الزخم الرائد.
كما تأثر احتكار الشركات الأميركية أيضا في الحوسبة السحابية، والتجارة الإلكترونية، وتمويل الإنترنت. وهناك أيضا الذكاء الاصطناعي الموجه نحو المستقبل والمجالات الناشئة مثل البيانات الضخمة، كما تعتقد الولايات المتحدة أن المنافسة بين الصين والولايات المتحدة أصبحت شرسة.
ومع ذلك، يؤكد شينغ أن الولايات المتحدة لم تفز هذه المرة من خلال المنافسة المفتوحة والحرة والعادلة عبر تحفيز قدراتها الابتكارية الفريدة والقوية في العالم.
في الواقع، تتمتع الولايات المتحدة بمزايا قوية في مجال التكنولوجيا الفائقة، إلى جانب قدرات البحث والتطوير الأصلية لآلية السوق، ويمكنها أن تشكل منافسة صحية مع الصين، يعزز بعضها البعض، وتتطوران معا. لكن واشنطن اختارت في النهاية مسارا آخر، وهو استخدام الهيمنة الأميركية الحالية للتدخل وتعطيل النظام الأساسي للمنافسة في السوق من خلال الأساليب المتطرفة من قبل السياسيين.
والسبب كما يقول شينغ، هو أن الولايات المتحدة حريصة على احتواء صعود الصين للتكنولوجيا الفائقة في أقصر وقت ممكن، للحفاظ على قدراتها الفريدة في جمع البيانات والاستخبارات العالمية التي تعتبرها الولايات المتحدة المفتاح للحفاظ على الأمن القومي والتفوق العسكري. وفي الوقت نفسه، يعد ذلك أيضا أساسا رئيسيا لضمان المزايا التكنولوجية والصناعية والاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة.
من الواضح أن الولايات المتحدة لن تكون عديمة الضمير كما كانت في السابق في جمع المعلومات الاستخباراتية عبر الهواتف المحمولة والإنترنت إذا تبنت دول أخرى معدات الإنترنت الصينية.
كان من الصعب على الولايات المتحدة، أن تحافظ على هيمنتها على استخبارات الإنترنت في فترة قصيرة من الزمن من خلال المنافسة بين قواعد السوق والبراعة التكنولوجية، لذلك اختارت استخدام “اليد المرئية” للحكومة الأميركية لتمرير ما يسمى بالسياسات غير الموثقة وغير الضرورية للأمن القومي، والتي ما هي إلا وسائل مكافحة واحتواء المنافسين، وفق شينغ الذي أشار إلى أن الزيادة السريعة في القيمة السوقية لشركات التكنولوجيا القائمة على الإنترنت من السمات المهمة للاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة.
وقد كان رئيس أمازون جيف بيزوس، أغنى رجل، في مقدمة قائمة الثروة الشخصية العالمية بفارق كبير عن المركز الثاني. وتجاوزت القيمة السوقية الإجمالية لأكبر عشرات شركات تكنولوجيا الأوراق المالية الأميركية القيمة السوقية الإجمالية لأسواق الأوراق المالية في العديد من البلدان. وقد أقنع هذا الوضع الناس بأن الاقتصاد العالمي في المستقبل مقدر له أن يهيمن على العالم من خلال اقتصاد الإنترنت.
في 6 فبراير 2020، صرح المدعي العام الأميركي ويليام بار بصراحة في خطابه الرئيسي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (سي.أس.آي.أس)، وهو مركز أبحاث أميركي، خلال “مؤتمر خطة العمل الصيني”، “لقد أنشأت الصين مكانة رائدة في مجال ج5، تمثل 40 في المئة من سوق البنية التحتية العالمية. وهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي لا تقود فيها الولايات المتحدة الحقبة التالية من التكنولوجيا”.
ستار حديدي
تشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2025، قد ينتج الإنترنت الصناعي الذي يعمل بتقنية ج5 فرصة اقتصادية بـ23 تريليون دولار. وإذا استمرت الصين في الهيمنة على مجال ج5، فستكون قادرة على السيطرة على سلسلة من الفرص التي أوجدتها التقنيات الناشئة التي تعتمد على تلك المنصات وتتشابك معها.
وحسب شينغ، تأمل الولايات المتحدة في قمع شركات الإنترنت الصينية من خلال السياسة، بهدف تحقيق أهداف و”إسقاط عدة طيور بحجرة واحدة”، ومن أكبر الطيور الحفاظ على هيمنة الإنترنت.
وفي مواجهة مثل هذه الهجمات المسعورة، فإن القوة العلمية والتكنولوجية المستقلة القوية هي السبيل الوحيد للصين لمقاومة هيمنة الولايات المتحدة والطريقة الأساسية للحصول على الحقوق والمصالح الأساسية للبقاء والتنمية. وهذه هي الطريقة الوحيدة لخدمة البشرية بشكل أفضل.
إقامة “ستار حديدي” للعلوم والتكنولوجيا ضد الصين لن يضحك الولايات المتحدة في الأخير. في الواقع، فإن “الجدار التقني” على الإنترنت الذي بنته الولايات المتحدة قد أدى إلى إعاقة التعاون التجاري والتقني الطبيعي، ولن يؤثر على الجانب الصيني فقط.
وتعتقد “لوموند” الفرنسية أن ما يسمى بـ”النصر” لأميركا لن يخلو من هزيمة الذات. وكانت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية أكثر صراحة، بالقول إن شركات التكنولوجيا الأميركية ستكون أكبر ضحية لفصل التكنولوجيا بين البلدين.
في التحليل النهائي، يعتمد التقدم العلمي والتكنولوجي للصين على الاعتماد على الذات والعمل الجاد. لقد أصبحت الصين واحدة من القوى التكنولوجية ذات التأثير العالمي ولا يمكن لأي قمع سياسي أن يوقف تقدمها.