لا يخفي الخبراء في ملف كهرباء لبنان على مدى ثلاثة عقود من الزمن استياءَهم من السباق المحموم الى تبنّي “الإنجاز الكهربائي” الأخير، وتحديداً بين وزراء “اوعا خيك”. واعتبر احدهم انّ الإنجاز جاء تلقائياً عندما سقطت “الفيتوات” عن منطق “الخصخصة” والشراكة بين القطاعين العام والخاص. وعليه من حق “سيدر 1” التباهي بما تحقق قبل بيع مؤسسة كهرباء لبنان بدولار واحد. لماذا وكيف؟
باستثناء اولى الخطط التي وضعها الفريق الإستشاري لوزير الموارد المائية والكهربائية المرحوم جورج افرام ومسؤولي مؤسسة كهرباء لبنان عام 1992 وحافظت على دور متقدم للمؤسسة على القطاع، فقد سقطت كل الخطط اللاحقة التي اقترحت بالضربة القاضية لمجرد التفكير بـ “خصخصة” ايّ جزء من قطاع الإنتاج او التوزيع أو الفوترة وجباية مداخيلها.
فالخطة الأولى التي وضعت في الفترة الفاصلة بين تكليف افرام المهمة في ثاني حكومات عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي في 30 تشرين الأول 1992 برئاسة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وإلى حين إحراجه وإخراجه ودفعه الى الإستقالة في 11 حزيران 1993 بسبب الخلاف الذي نشب بينه وبين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لم تكن مشاريع الخصخصة مطروحة اساساً في ايّ من القطاعات الكهربائية. ولم تتغيّر الظروف التي رافقت تكليف الوزير الراحل الياس حبيقة بدلاً منه، فقد كانت مؤسسة كهرباء لبنان تعاني نتائج استهداف مصانع الطاقة في الذوق وخزانات الوقود من النفط والغاز بالقصف السوري وتدمير شبكات التوزيع ومحطات التحويل التي توقفت عن العمل على محاور القتال. وعلى رغم من ذلك فقد انتهت ولايته عند استقالة الحكومة في 25 أيار 1995 باستعادة التيار بمعدلات تفاوتت بين 16 و20 ساعة في ما ندر من الطاقة يومياً قبل أن تنهار لاحقاً لفترات تفاوتت فيها ساعات التغذية الى النصف في حرب نيسان 1996، كذلك عندما استهدفت الطائرات الاسرائيلية المحطات الكهربائية للانتاج والتحويل في أكثر من منطقة وفي فترات الحصار البحري في حرب تموز 2006.
ليس الوقت اليوم للتوسع في تقديم جردة عن مراحل إنتاج الطاقة، فقد بلغت الأزمة ذروتها في عدد من المحطات وعُزِيَ السبب في حينه الى النزاع بين شركات استيراد الفيول وبقية المشتقات النفطية التي تحكمت بها مجموعة من الشركات الى ان احتكرتها إحداهن، وكانت تعرف باسم صاحبها اكثر من اسمها الحقيقي، والتي بنت ثرواتها في تلك الفترة وفاضت موازنتها بمليارات الدولارات قبل التفاهم على عقد الصفقات من دولة الى دولة في ايام الوزير محمد فنيش عام 2005 الذي وقّع العقود مع شركتين هما «سوناتراك» الجزائرية و”الوطنية الكويتية”.
على وقع مسلسل الأزمات التي عاشتها البلاد طوال عقدين من الزمن لم تكن المشكلة في قطاع الكهرباء كما هي مطروحة اليوم بالنسبة الى خطة الوزيرة ندى بستاني وملخصها بين ما بين سعي وزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان الى احتكار المناقصات او إجرائها في المديرية العامة للمناقصات ولا في تشكيل الهيئة الناظمة للقطاع. ولم تكن هناك مشكلة اسمها تعيين مجلس إدارة جديد للمؤسسة، بل كانت في رفض البعض منطق الخصخصة في القطاعات العامة والمؤسسات الخدماتية الكبرى كما بالنسبة الى مشاريع بناء معامل «تعتمد طريقة التصميم والتمويل والإنتاج والتشغيل والتسليم الى الدولة اللبنانية بعد فترة زمنية (BOT). فقد كانت كل هذه الأفكار غير مقبولة من قبل فئات سياسية وحزبية عبرت عنها المواقف النقابية في الإتحاد العمالي العام وبعض “الأحزاب الوطنية” وصولاً الى تلك التي قادتها حركة “أمل” وحلفاؤها على وقع الخلافات التي تسبّبت بها قضايا المياومين وعمال الإكراء في مؤسسة كهرباء لبنان.
مسلسل الحديث عن الخصخصة بدأ بصدور القانون 24 في أيار 2000 الخاص بتنظيم مشاريع الخصخصة في اكثر من قطاع، ووضع وزير الموارد في حينه القاضي سليمان طرابلسي مشروع قانون لترجمته في قطاع الكهرباء في حزيران من العام نفسه فطوي في ادراج رئاسة الحكومة بسبب اصرار الرئيس نبيه بري على رفض اي قانون لا يمر في مجلس النواب معتبراً يومها انه مخالف لمضمون المادة 89 من الدستور ويصادر صلاحيات مجلس النواب لمصلحة وزير. وبعد ذلك صدر القانون 462 عام 2002 الذي واجه العقدة عينها ولم ينفَّذ الى اليوم. كان ذلك الواقع قائماً قبل أن تكسر حدته، خطوة اعتماد الخصخصة الجزئية عن طريق العقود التي ابرمت مع شركات الخدمات التي تعهدت الصيانة والفوترة والجباية من دون قطاعي الإنتاج والتوزيع، فتم تقسيم البلاد على قياسها مذهبياً وسياسياً بنحو توزعت فيه المغانم على مختلف الأطراف الى أن بلغت حال المؤسسة ما بلغته في السنوات الماضية من انهيار تعيشه من فترة الى أخرى نتيجة فشل شركات الخدمات من جهة في القيام بمهماتها وإضراب موظفيها المياومين ولمجرد سوء التقدير في احترام المراحل الضرورية الفاصلة بين طلب سلفات الخزينة من وزارة المال والموافقة عليها من جهة أخرى فتتهدّد البلاد الظلمة الشاملة من وقت لآخر. هذا إذا لم يكن سوء الطقس عاملاً اساسياً لا يسمح للبواخر احياناً بتفريغ حمولتها من الفيول أو يظهر أنه «مغشوش» وغير صالح للإستخدام في المصانع والبواخر المنتجة للطاقة كما حصل أكثر من مرة.
عند هذه الوقائع ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل يتلهى بعض الأطراف ومعهم فريق وزرائهم بادّعاء الإنتصارات في الخطة الجديدة وتناسوا انهم كانوا صفاً واحداً في مواجهة الفيتوات التي حالت دون عملية خصخصة القطاع منذ سنوات. وهي مواجهة كانت سبباً اساسياً في اعاقة تنفيذ جزء كبير من الخطط السابقة وحالت دون تشكيل الهيئة الناظمة للقطاع الى أن باتت من الخطوات الإجبارية التي فرضها عليهم البنك الدولي وضرورة مواكبة شروط مؤتمر “سيدر” للتخفيف من عجز الكهرباء الذي كلف الدولة الى الآن نحو 43 % من الدين العام بعدما فاضت كلفته على 42 مليار دولار.
ولذلك قد لا تقف الأمور عند إضافة قطاع الإنتاج الى برامج الخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص الى قطاع الفوترة والتصليحات والجباية هذا إن عبر التعديل المقترح للمادة 288 من مشروع قانون الـ”BOT” لمخالفته المادة 89 من الدستور في المجلس النيابي بعد مؤشرات توحي برفض بري التعديل المقترح. وربما لاحقاً سيشمل هذا التصنيف شبكات التوزيع لإكمال بنائها وترميم ما هو قائم منها. وذلك من اجل توزيع الفائض المنتظر من الانتاج ووقف الهدر التقني الذي تتسبّب به رداءتها وهزالتها. وكلها امور دفعت بالخبراء الماليين والإقتصاديين للاشارة الى انّ إقتراح بيع مؤسسة كهرباء لبنان بكل طاقمها وكوادرها ومنشآتها بدولار واحد قد تأجّل. على أمل أن تعود الكهرباء الى المنازل والأحياء بنحو متوازن وعادل بعد 29 عاماً على طيّ اللبنانيين لفصول الحرب من دون القدرة على طيّ برامج التقنين.