يتشابه مشهد المُنتظرين “نعمة” حُلول وقت تقديم مُعاملاتهم المُختلفة، عبر أحد مراكز شركة بريد الـ “Liban Post”، المُنتشرة على الأراضي اللُبنانية كافة، بمشهد “المُستميتين” للحُصول على حصة غذائية في غزة، مع فوارق – بطبيعة الحال – وقواسم مُشتركة بين المشهديتين!.
فنظام توزيع “الإعاشات” في غزة لا يلحظ كرامة الإنسان الغزاوي ولا أمنه، وتتحمل سلطات الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الأُولى في ذلك…
وأما “المُجبَرين” إداريا، على تقديم مُعاملاتهم الرسمية و”الاستفادة الإكراهية” من شركة البريد المذكورة، ففيها نوع من “إذلال” المُواطنين، عبر طوابير الانتظار والزُحمة الخانقة، وإهدار وقت الناس انتظارا. ويتحمل المسؤولية، في هذه الحال، نظام لبناني مُهترئ فسادا، تزيد على طينته بلة “خدمة” اتصالات، ما إن يُحكى تبجُحا أنها أدخلت جيلها الخامس (5 G)، حتى يترحم المُستخدمون على الجيل الرابع (4 G).
في مركز لـLiban Post
قصدتُ مركز Liban Post، في جديدة المتن، لمُتابعة الموضوع، بعدما تلقيتُ معلومات مضمونها غير حميد، عن “مُعاناة” المواطنين مع شركة البريد. وإحدى الشكاوى مفادها أن المُواطن (ز. ع.) تقدم بمُعاملته، وقد نال “نعمة” عُبورها عبر شركة البريد، وباتت مسألة حُصوله على الرد، بواسطة الشركة مُجرد مسألة وقت.
ولكن بعدما حل “اليوم الموعود”، قيل له بوجوب أن يستحصل على الرد من شركة البريد مُباشرة، مع العلم أن من المُفترض أن يصله الظرف إلى منزله أو المُؤسسة التي يعمل بها.
ولأن “نعمة” الخدمة البريدية تستأهل المزيد من التضحيات، فقد قصد (ز. ع.) مركز شركة البريد، وهُناك كان وقع الصاعقة عليه. قيل له: “مش شايف العجقة… هلق مش فاضيين نفتش ع معاملتك”. وتكررت هذه الجملة بطريقة الـ copy – past، أكثر من مرة في ذلك اليوم، وضمنا من المسؤول عن مركز البريد.
وأما الرجل، فقد انتفض لكرامته، وصاح: “أنا دافع ثمن هالخدمة، وكان مفروض توصلني ع الشركة… متل ما عطيتكن حقكن بدي حقي”… ولكن كلامه كان “صوت صارخ في البريّة”!.
المُعاينة الميدانية
حين تدخُل إلى مركز للـ”Liban Post”، تخال نفسك في “جنة بريدية”. تستقبلك أولا لفافة إعلانية طُبع عليها: “الإقامة ع باب المستريح…
1 –إذا قدمنا بالأمن العام…
2–إذا جددنا بمكاتب ليبان بوست…
3 –جددناها عنك… منردّا خالصة مخلَّصة”.
ومن ثم شاشة تلفاز كبيرة الحجم، على يمينها إشارة إلى رقم العداد (counter) ورقم المُعاملة، وعلى يسارها إعلانات للخدمات الجلية الهائلة من حيث عددها فقط، وليس النوعية.
عدد العدادات المُخصصة لاستقبال المُعاملات في مركز جديدة المتن 6، غير أن اثنين منهما توقفا عن العمل بعد المعاملتين 68 و83، وعدادان اثنان لا يعملان أصلا، بسبب “الشح” في عدد موظفي المركز. وأما العدادات العاملان فيُكملان العمل بدءا من المعاملة 108، في الساعة الثانية بعد ظهر الجمعة 17 تشرين الأول 2025، لحظة دخول صاحب المعاملة 165.
يعني مبدئيا في المركز 57 صاحب مُعاملة، ولكن واقعيا العدد 20. وأما الباقون فقد يئسوا من الانتظار وغادروا، أو أنهم خرجوا لإنجاز أمر ما، ومن ثم العودة قبل حلول موعدهم لتقديم المُعاملة…
اليائسون يتجاوزون في عددهم الصامدين الصابرين… وثمة مَن أوجد طريقة أُخرى للصبر، إيمانا منه بأن “الله مع الصابرين إذا صبروا”. ففي زاوية من المركز، سيدة في العقد الرابع من العُمر، تُنجز عملها عبر حاسوب جلبته معها، تقديرا منها لأهمية الوقت، ولوجوب عدم إهداره في العدم. والوقت أثمن ما في الوجود!.
لقد توالت اللقطات على الشاشة، وتنوعت معها الخدمات البريدية الافتراضية: “ستُصدر ليبان بوست وبالتنسيق مع وزارة الاتصالات طابع عادي جديد (بدلا من طابعا عاديا جديدا – خطأ لغوي فادح)، موضوعه الطوباوي البطريرك إسطفان الدويهي في 2 آب 2024″… ويبدو أن التاريخ لم يحن بعد، أو تخطاه الزمن!…
وفي إعلان آخر شعار: “دفاع الميكانيك عنا”…
وفي ثالث: “طوابع السير متوفرة في مكاتبنا”…
وهكذا، فالموظفان المُناوبان في المركز، تقع على عاتقهما كُل هذه الخدمات وغيرها الكثير الكثير، من تسديد رُسوم التسجيل في الجامعة اللُبنانية، إلى دفع محاضر ضبط السير، تقديم طلبات الانتساب إلى “أمن الدولة”، حيث يتوقف نظام المعلوماتية الخاص به بوتيرة مُرتفعة، فيُقال إذاك للمُتقدمين بالطلب: “اليوم مش ماشي الـ system”…
ولكن الإيجابية في دفع غرامة السير عبر “ليبان يوست”، أن المُخالف يتوب ولا يُكرر فعلته مرة ثانية، لأنه ينتظر حوالي الـ 4 ساعات لدفع الغرامة.
وقد صودف وجود سيدة قصدت شركة البريد في اليوم المذكور، لتدفع ضبط مُخالفة سير في حق ابنتها. قالت: “بنتي كانت صافِّة (راكنة) سيارتها قدام محل بالأشرفية، حدّ الجامعة اليسوعية. هالمحل ما بيفتح لا ليل ولا نهار. وعِملولا ضبط وافتَروا عليها”… ولكن المصيبة الأكبر أن السيدة خسرت نيفا وثلاث ساعات من عمرها، لتسدد قيمة الضبط البالغة 500 ألف ليرة لبنانية. وقد صح فيها القول: “من هالِك لمالِك لقبّاض الأرواح”.
وفي المقابل يقصد مركز البريد أيضا، من عليه تسديد مبالغ ضخمة من المال عبر الـ “ليبان بوست”، حاملا “كرتونة” من الحجم الكبير، ملأى بالأموال، تُهلِك آلة عدّ النقود، و”تُصرِع” الحاضرين بصوتها، وتزيد على الجميع توترا واحتقانا.
في المركز من يقصده لدفع 500 ألف ليرة، كمن يقصده لتسديد الملايين. ولو كان في الإمكان لخُصص عداد لأصحاب المليارات، وآخر لـ “عامة الشعب”، كما هو الوضع في المتاجر الكبرى التي تُخصص صندوقا لمن اشترى سلعة واحدة أو اثنتين أو ثلاث سلع لا أكثر.
في الرابعة حصل صاحب المُعاملة 165 على “نعمة” تقديم مُعاملته. ومن أصل 57 شخصا سبقوه، يَئِس أكثر من ثلاثين شخصا ولم يصمُدوا، ما جعل صاحب الرقم 165 يفرح في سره، لأنه انتظر فقط ساعتين اثنتين لتقديم مُعاملته.



