في خيال العديد من اللبنانيين أنّ بلدهم سيصبح الأغنى في الشرق الأوسط عندما يبدأ استثمار موارده الغازية الكامنة في مياه المتوسط. لكن المسار الذي يسلكه هذا الملف، منذ انطلاقته، يثير شكوكاً جدّية: هل إنّ اللبنانيين هم فعلاً أمام ثروة ستنقلهم من الانهيار إلى الازدهار، أم إنّهم يهرولون وراء سراب؟
العامل الأساسي الذي يعوق إنتاج تسوية سياسية في لبنان اليوم، هو الصراع الدائر للسيطرة على قراره وثرواته: لأي قوة أو محور سيكون هذا البلد، في المدى القريب ثم البعيد؟
وتدور فوق الطاولة وتحتها مساومات بين القوى النافذة إقليمياً ودولياً، تبدو القوى المحلية جزءاً منها، بهدف التوصل إلى صفقة تقاسم للنفوذ والموارد في لبنان. وما يسمّيه اللبنانيون عادةً «تسوية» في ما بينهم هو في الواقع «الصفقة» التي تتمّ بين القوى الخارجية، وفيها تتقاسم الحصص في لبنان.
وكل مستلزمات السيطرة على السلطة والموارد في لبنان تبدو اليوم جاهزة. فقد جرى إفراغ المؤسسات من شاغليها بهدوء، واحدة تلو أخرى، وتمّ إخضاع المؤسسات العاملة لنفوذ قوى سياسية أو طائفية، سعياً إلى تحقيق هذا الهدف.
وفي لحظة معينة، عندما تتوافر الظروف لعقد الصفقة بين قوى الخارج، وتحديداً الولايات المتحدة وإيران، سيكون كل شيء جاهزاً لتنفيذ عملية التقاسم بين الأقوياء في الداخل: هذه لي وهذه لك.
هذا يعني أنّ السلطة التي سيتمّ تركيبها، لتدير البلد خلال السنوات الـ 6 المقبلة، أي في العهد الرئاسي والحكومات التي ستواكبه، لن يكون لها امتياز التحكّم بالقرار السياسي الداخلي فحسب، بل أيضاً بامتياز الإشراف على إدارة ثروات لبنان وموارده وموجوداته، خصوصاً في مرحلة الخروج من وضعية الانهيار.
في عبارة أخرى، السلطة التي يجري العمل على تركيبها في لبنان ستكون منتقاة بعناية و«على القياس»، كجزء من صفقة التقاسم الكبرى. وهذه السلطة سيكون دورها تنفيذ الصفقة، أي أنّها ستقوم بإعادة بناء المؤسسات وفقاً لتوازنات القوة المُتفق عليها، وسترعى عملية استثمار الغاز بإعطاء كل طرف داخلي وخارجي حصته، وفقاً للاتفاق أيضاً. وضمن هذا المفهوم، هي ستتولّى تنفيذ عملية الخروج المفترضة من الانهيار. وبالتأكيد، لن يعني ذلك بالنسبة إليها بناء دولة القانون والشفافية والإصلاح، بل ترقيع الموجود ليستمر الوضع كما كان قبل الانهيار. فالمطلوب أن تبقى الأمور تحت سيطرة هذه المنظومة التي نجت من محاولة الإسقاط في انتفاضة تشرين الأول 2019، وتمكنت من فرض نفوذها على البلد حتى إشعار آخر، على رغم أنّ الانتخابات النيابية في العام الفائت جاءت في غير مصلحتها.
يعني ذلك أنّ لبنان سيكون في السنوات المقبلة في الوضعية الآتية:
1- سيبقى القرار السياسي الداخلي في يد المحور الحليف لطهران، مقابل التزامه الضمانات التي تطلبها الولايات المتحدة والغرب، خصوصاً في ما يتعلّق بأمن الحدود والطاقة. وهذا ما بدأ يظهر بوضوح منذ توقيع اتفاق الترسيم البحري مع إسرائيل، قبل عام.
2- سيحصل هذا الفريق على امتياز التحكّم بعشرات مليارات الدولارات التي هي حصّة الدولة اللبنانية من عائدات الغاز، مقابل رعايته مصالح الأطراف والشركات الإقليمية والدولية التي لها حصصها من الغاز أيضاً.
3- سيتمكن هذا الفريق من إدارة ما بقي في مصرف لبنان من موجودات بالعملات الأجنبية ومن الذهب، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، والتحكّم ببنود الموازنة ومالية الدولة عموماً.
وفي الخلاصة، سيمتلك فريق السلطة قدرة على التحكّم بعشرات المليارات من الدولارات، بتغطية من القوى الإقليمية والدولية، وهو ما سيفتح أمامه الأبواب لإسكات أصوات المعارضة بأشكال مختلفة، وسط صمت دولي وغضّ نظر أو عجز عربي.
وسيذكّر ذلك بمرحلة الحكم التي أعقبت اتفاق الطائف، والتي جرت فيها الصفقة ما بين دمشق من جهة والولايات المتحدة والغربيين والعرب من جهة أخرى. وفيها تمكنت سوريا من إدارة لبنان واستثمار ما أمكن من طاقاته، مقابل «رشوة» الغرب والعرب بالاستقرار والتصدّي للإرهاب.
يعني ذلك أنّ الثروات المُنتظر أن تتدفق من بلوكات الغاز، في غضون فترة تراوح ما بين 5 أعوام و7، ستتوزع فيها الحصص على الأقوياء في الداخل والخارج. واتفاق الترسيم البحري، قبل عام، كان أول الغيث.
واليوم، جرى استعجال فضّ العروض في البلوكين 8 و10، لمنح كونسورتيوم الغاز الثلاثي (الفرنسي- الإيطالي- القطري) إيّاه رخصة التنقيب، على رغم أنّ الخبراء نصحوا بتأجيل هذه الخطوة إلى ما بعد صدور النتائج الإيجابية المحتملة لعملية التنقيب في البلوك 9، والتي باتت على وشك الظهور، ما كان يمكن أن يرفع من حصّة الدولة اللبنانية.
وبناءً على ذلك، يتبيّن أنّ هناك تفاهمات ضمنية مسبقة على الحصص بين كل المعنيين، في الداخل والخارج، حول ملف الغاز والنفط، ما يثير القلق من ضياع هذه الثروة الثمينة التي هي ملك الأجيال الحالية والآتية من الشعب اللبناني.
فالمنظومة التي نهبت موارد الدولة وأموالها وودائع اللبنانيين في القطاع المصرفي، وما زالت تبحث عن الصفقات التي تؤمّن لها المزيد، لا يمكن إئتمانها على عشرات المليارات من دولارات الغاز، أو عشرات المليارات من دولارات الذهب والاحتياط بالعملات الصعبة، أو المليارات المحتمل أن تصل في شكل مساعدات من الجهات المانحة.
كما أنّ التشريعات التي سيتمّ إقرارها في الفترة المقبلة، ولاسيما تركيبة «الصندوق السيادي» المخصّص لحفظ أموال الغاز، يُخشى أن تكون مدروسة للقبض على الموارد كلها، بدءاً بالغاز الذي ستتبخر أمواله في هذه الحال، وسط مناخات من الغموض، كما تبخّرت وتتبخّر موجودات الدولة وودائع اللبنانيين، من دون أن يرفّ جفن لأي كان في السلطة، أو يُقدَّم مذنب واحد إلى المحاسبة.
وفي الدرجة الأولى، ستعتمد هذه المنظومة موارد الغاز مادة مساومة لإجراء المقايضات اللازمة مع القوى الإقليمية والدولية، لتحصل منها على التغطية اللازمة، كي تتمكن من القبض على البلد ومؤسساته وثرواته، فوق الأرض كما تحتها.