أثار كلام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن تسديد الودائع بالليرة بلبلة في الأوساط المالية والنقدية، رغم أنه حاول تصحيح “زلّة” لسانه هذه وتوضيح المقصود. ليس هذا الطرح جديداً ولو اختلفت نسب التطاول على جيوب الناس. ففكرة تحويل نسبة معينة من الودائع الى الليرة كانت قد طُرحت أكثر من مرّة الا أن سلامة رفض الفكرة رفضاً قاطعاً، قبل أن يعود ويُلوّح بـ”اللولرة”، في إطلالته الإعلامية الأخيرة.
كلام الحاكم دفع بالاقتصادي شربل قرداحي إلى التعليق والقول علناً أن “تسديد الودائع بالليرة اللبنانية لن يكون شرعياً حتى ولو قُونِنَ”. وفي اتصال مع “نداء الوطن”، يوضح قرداحي أن “هناك عجزاً بالثروة الوطنية بالعملات الصعبة. ولكن ومهما كانت الظروف، فإن المسّ بودائع الناس ولوْلَرتها، طرْح مرفوض جملة وتفصيلاً. إقتصر البيان الذي أصدره المكتب الاعلامي لحاكم مصرف لبنان حول عدم شرعية تحويل الودائع الى الليرة، على توضيح أن المصارف غير ملزمة على الدفع بالعملة الصعبة. وذلك يعني عمليّاً انه ولدى استحقاق الوديعة يتعذّر على العملاء سحبها بالدولار وهذا دليل واضح على تطبيق الهيركات بنسب تتراوح بين 30 وربما 50% وفقاً لسعر الصرف الحقيقي في السوق. وبرأيي ليس هناك أي أسباب تبرّر الاقتطاع من الودائع ولو حتى أجازه القانون، وبذلك لن يكون مشروعاً”.
بمعنى آخر، وفي حال طُبّق “الهيركات” بهذا الشكل سيقتطع حوالى 40% من ودائع الناس، والأخطر أنه سيشكّل مخرجاً يستغلّه البنك المركزي لتغطية خسائره “الفادحة” المتراكمة والمقدّرة بنحو 40 مليار دولار، وهو ما تؤكّده أرقام جمعية المصارف في التقرير الذي تنشره على موقعها بشكل دوريّ. فبحسب جمعية المصارف، كان هناك 230 ألف مليار ليرة في أيلول الماضي، والذي يوازي بنحو تقريبي 148 مليار دولار (هذه هي إيداعات المصارف لدى المركزي بالليرة والدولار). وتجدر الاشارة الى أن حاكم مصرف لبنان رفض مراراً البوح بإيداعات المصارف لديه بالعملة الخضراء، حتى عندما طلبت منه وكالة “ستاندر أند بورز” ذلك، لتجنّب فضح قيمة عجزه المتراكم وديونه للبنوك التجارية.
عن الموضوع يرى المرجع القانوني د. بول مرقص أن “القيود المصرفية غير قانونية وان كانت ضرورية للحفاظ على استمرارية المصارف، ويجب تشريعها بقانون عادل يصدر عن مجلس النواب وليس بقرار من السلطة التنفيذية، يكون موقّتاً ومعلّلاً وفق ما تبيحه مواثيق حقوق الإنسان تجنّباً لإبطاله أمام المجلس الدستوري. كما لا يجوز قانوناً تحويل الودائع من الدولار الى الليرة بإرادة المصرف المنفردة. وهنا لا بدّ من التطرق الى مسألة يُثار حولها لغط كبير وهي الـ banknotes أو monnaie en espèces أي السحوبات النقدية بالدولار، فتسليم أوراق الدولار النقدية هو خدمة يؤدّيها المصرف، بالتالي ليست موجباً عليه في حال عدم توافرها خصوصاً في حال تهافت المودعين run/rush. وبالعودة الى الحديث عن السحوبات النقدية لأصحاب الحسابات بالدولار فإن المصرف يقوم بتسليم السيولة بالدولار بحسب توافرها، وإلا فهو يخيّر العميل إما بالقبول باستلام العملة الوطنية على أساس سعر الصرف الرسمي أو ترك هذه الاموال في الحساب، أي أن المصرف يحفظها دفترياً أو يُصدر بها شيكاً بالعملة الاجنبية”. أما عن امكانية القبول بشيكات مصرفية وتحويلها الى حسابات مصرفية خارج لبنان فيقول مرقص: “تنصّ النشرة الدولية رقم 522 والتي ترعى قواعد التحصيل على حق المصرف في أن يكتفي بالدفع داخلياً، وبالتالي تبرّئ ذمّته. ذلك يعني أنه لا يتحمّل موجب الدفع حول العالم. وعليه، تمتنع المصارف عن إيفاء التحصيل الخارجي بواسطة المصارف الدولية المراسلة إذا صرّحت عن قصر الدفع داخلياً”.
الودائع مبخّرة…
في اتصال مع “نداء الوطن” يوضح الخبير المالي وليد أبو سليمان أنّ “الأوان قد آن لتحديد الخسائر ومعرفة الاصول التي تملكها الدولة والديون المترتّبة عليها. والامر سيّان بالنسبة الى مصرف لبنان إذ يلزمنا معرفة مكامن الخسائر والارباح التي سجّلها. تشير أرقام جمعيّة المصارف الى أن مجموع الودائع الموجودة لدى مصرف لبنان بالليرة وبالدولار تبلغ حوالى 148 مليار دولار. لا ينكر مصرف لبنان أن التزاماته للمصارف التجارية تناهز 101 مليار دولار. لكن، وبعد مقارنة أرقام كل من جمعية المصارف ومصرف لبنان، وبعد احتساب ديون المصارف للمركزي، نلاحظ أن هناك فارقاً بنحو27 ملياراً. يشكّل هذا الرقم عمليّاً ضياعاً في الحسابات. وهذا ما يستوجب بحثاً وإعلاناً صادقاً من قبل المسؤولين لاستبيان مكان هذه الاموال ومصيرها.
هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فتبرز معضلة ديون المركزي لصالح النظام المصرفي، وإذا سلّمنا جدلاً أن هناك 148 ملياراً (ايداعات المصارف للمركزي بالليرة وبالدولار) وحسمنا قيمة ديون المصارف لصالح مصرف لبنان، يتبين أن هناك 125 ملياراً. لا بد من معرفة القيمة المتواجدة بالدولار وتلك التي بالعملة المحلية، لنتمكن من احتساب ديون مصرف لبنان وبالتالي معرفة مصير ودائع الناس. في تقريرها الاخير، أشارت ستاندر أند بورز الى أن للمركزي احتياطياً سلبياً بـ31 مليار دولار بمقابل 75 ملياراً كودائع وشهادات ايداع. ذلك يعني أن فجوة العجز الذي يرزح تحت وطأته المركزي تبلغ 40 مليار دولار. وللاشارة فإن ما يقارب 65% من ودائع الناس موجودة في الواقع لدى مصرف لبنان. وهنا تقع الملامة على المصارف التي تصرّفت بودائع الناس وقامت بإقراضها الى المركزي من دون التشدد بشروط الاقراض”.
بالاستناد الى كلّ هذه الوقائع، يمكن اختصار الواقع بالتالي: دولار اللبناني محجوز ولا يمكن التصرّف به ولا سحبه ولا تهريبه ولا حتى إنقاذه. أما ودائع الناس فتبقى مجهولة المصير لحين استبيان أرقام مصرف لبنان “المتخفّية”.