غالبًا ما يصرّ البعض على الإشارة إلى ضرورة الحفاظ على مقوّمات الاقتصاد الحر في لبنان، لرفض بعض المعالجات المطلوبة للخروج من الانهيار الراهن، كفرض إعادة هيكلة القطاع المصرفي أو تنظيم القيود على حركة الرساميل بشكل مؤقّت. لا بل يذكر الجميع كيف أشهرت الهيئات الاقتصاديّة شعار حماية الاقتصاد الحر، لمواجهة المس بالوكالات الحصريّة والاحتكارات، التي يفترض أن يكون إلغاؤها البوّابة البديهيّة للعبور نحو السوق الحرّة (راجع المدن). وفي كل الحالات، بات من الواضح أنّ من يتغنّى بهذا الشعار لم يعد ينطلق من خلفيّات إيديولوجيّة ليبراليّة صادقة، بل من حرص على حماية إمتيازات خاصّة، لا تتصل أصلًا بأولويّات وقواعد السوق الحر.
وللدلالة على هذا الواقع، تكفي الإشارة إلى أنّ الانهيار الحالي، وما نتج عنه من تداعيات، أطاح أساسًا بكل مقوّمات السوق والاقتصاد الحر البديهيّة، سواء في ما يتصل بسعر الصرف وتعدده وآليّات عمل سوق القطع، أو في ما يخص حريّة حركة السيولة داخل النظام المالي. بمعنى أوضح، صار من السذاجة اليوم السؤال عن كيفيّة حماية الاقتصاد والسوق الحر أو الحرص عليهما، بل بات يُفترض بالحريص على هذه الأولويّات السؤال عن كيفيّة استعادة الانتظام المالي والنقدي أوّلًا، بإجراءات حكوميّة طارئة واستثنائيّة، بما يتجاوز آليّات عمل السوق التلقائيّة وحدها. مع الإشارة إلى أنّ هناك أصلًا علامات استفهام حول مدى تحرّر الاقتصاد اللبناني قبل حصول الانهيار، في بلاد حكمتها منذ التسعينات قواعد تثبيت سعر الصرف والوكالات الحصريّة وتلزيم المرافق العامّة بالصفقات المشبوهة.
لبنان في مؤشّر “الحريّة الاقتصاديّة”
العودة إلى هذا الحديث اليوم يأتي بمناسبة نشر تقرير “الحريّة الاقتصاديّة في العالم للعام 2022″، الذي تعدّه مؤسسة “فرايزر انستيتيوت” الكنديّة، حيث يقوم التقرير بتقييم درجة تشجيع السياسات والمؤسسات المحليّة في كل بلد للحريّة الاقتصاديّة. “فرايزر انستيتيوت” تُصنّف كمركز أبحاث يميني محافظ، يحمل أولويّات الدفاع عن سياسات الاقتصاد الحر، وهو ما يفسّر تخصصها في هذا النوع من التقارير. ولقياس درجة الحريّة الاقتصاديّة في دول العالم المختلفة، تعتمد المؤسسة على مؤشّر يقيّم حجم الدولة وتدخّلها في السوق، وحريّة التجارة الدوليّة، ونوعيّة التنظيمات المحليّة، بالإضافة إلى عمل القضاء وحقوق الملكيّة والانتظام النقدي، وغيرها من العوامل التي تشجّع أو لا تشجّع آليّات عمل السوق المتحرّرة.
بالنسبة إلى لبنان بالتحديد، يُظهر التقرير تراجع لبنان –في ما يخص الحريّة الاقتصاديّة- إلى الرتبة 154، من بين الدول الـ165 المشمولة بالتقرير، بعدما حاز قبل حصول الانهيار عام 2019 على المرتبة 90، فيما حصل سنة 2011 –أي قبل بدء أزمة التحويلات من الخارج- على المرتبة 56. وبهذا المعنى، يمكن القول أنّ لبنان بات اليوم أحد أسوأ 11 دولة في العالم، على مستوى الحريّة الاقتصاديّة. مع الإشارة إلى أنّ التقييم العام للبنان انخفض تدريجيًّا خلال السنوات الماضية من 7.03 نقاط سنة 2018، إلى 6.85 نقاط سنة 2019، وصوّلا إلى مستوى 5.45 نقاط بعد حصول الانهيار.
الملفت للنظر هنا هو أن لبنان، الذي لطالما عُرف بانفتاح اقتصاده نسبيًّا مقارنةً بمعظم الدول العربيّة، بات متأخّرًا بدرجات كبيرة مقارنة بالغالبيّة الساحقة من الدول العربيّة الأخرى، على مستوى الحريّة الاقتصاديّة. فحسب ترتيب المؤشّر، حلّ لبنان متأخّرًا بعد كل من العراق ومصر واليمن وموريتانيا والأردن والمغرب وتونس، وجميع دول الخليج العربي من دون استثناء. أمّا الدول التي جاء ترتيبها بعد لبنان من ناحية الحريّة الاقتصاديّة، فاقتصرت على كل من السودان وسوريا وليبيا، التي تشهد أزمات ماليّة ونقديّة قاسية تؤثّر على آليّات عمل أسواقها.
ببساطة، ما يقوله التقرير هنا هو حقيقة واحدة: لم يعد لبنان يملك شيئًا من مقومات الاقتصاد الحر، التي يتغنّى بها البعض محليًّا. وحالة الانهيار التي يمر بها لبنان منذ العام 2019، قيّدت الاقتصاد المحلّي إلى حد بعيد، ما يجعل شعار “الحفاظ على الاقتصاد الحر” أشبه بنكتة من الناحية العلميّة.
أسباب تدهور تقييم لبنان
بمجرّد الدخول في تفاصيل الأرقام التي تدخل ضمن حساب المؤشّر العام، يدرك المرء سريعًا المتغيّرات التي تراجع بفضلها ترتيب لبنان في مؤشّر الحريّة الاقتصاديّة. فتقييم التقرير للانتظام النقدي في لبنان تراجع من 9.53 نقاط عام 2019، إلى 4.97 نقاط بعد حصول الانهيار. مع الإشارة إلى أنّ هذا البند يقيّم مستويات التضخّم وحرية امتلاك العملات الصعبة واستعمالها في الحسابات المصرفيّة، ما يسمح للمقيمين بالحفاظ على قيمة مدخراتهم واستثماراتهم. أما البند المتعلّق بحريّة التجارة الدوليّة، فتراجع من 5.91 نقاط عام 2019، إلى 3.47 نقاط بعد حصول الانهيار، في نتيجة طبيعيّة للقيود المفروض على الحسابات المصرفيّة، التي طالت قدرة المستوردين على التحويل إلى الخارج. أمّا البند المتعلّق بوجود سوق سوداء للصرف، فتراجع من 10 نقاط عام 2018 (أي وضع مثالي، لا وجود فيه لسوق سوداء)، إلى 0 نقطة اليوم (أي أسوأ تقييم على الإطلاق، نتيجة تعدد وفوضى أسعار الصرف).
باختصار، وكما بدا واضحًا من مضمون التقرير، اتصلت أسباب تراجع الحريّة الاقتصاديّة بالنتائج المباشرة لأزمة القطاع المصرفي، وأزمة فوضى أسعار الصرف، أي الأزمات التي ترتّبت على الانهيار المالي الشامل. ولهذا السبب، من العبث اليوم البحث عن كيفيّة حماية الاقتصاد الحرّ، أوّلًا لغياب مقوّمات الحريّة الاقتصاديّة بسبب الانهيار، وثانيًا لأن العبور إلى الانتظام المالي والنقدي مستحيل من دون تدخّل الدولة الرسمي، وبخطة اقتصاديّة شاملة، ومن خارج أدوات الاقتصاد الحر. وفقط عند استعادة الانتظام المالي والنقدي، يمكن عندها البحث في حجم تدخّل الدولة في الاقتصاد المحلّي، أو درجة انكفائها، حسب النموذج الاقتصادي الذي سيتم اعتماده. أمّا كل ما يُقال اليوم عن حماية الاقتصاد، فليس سوى شعارات للاستهلاك الإعلامي والسياسي.