ليس إضراب موظفي مستشفى رفيق الحريري الحكومي الجامعي، بحدّ ذاته، هو الحدث الأبرز في قضية المستشفى. فالإضراب ليس مستجدّاً، بل أصبحَ حدثاً متواتراً تختلف تفاصيل أسبابه، فيما جوهره هو التحذير من انهيار المستشفى بشكل تام. وإذا كان الإضراب المفتوح الذي انطلق يوم الثلاثاء قد حمل في طابعه العام مطلب إنقاذ المستشفى وضمان ديمومة خدماته من جهة، وتسريع دفع رواتب الموظفين من جهة أخرى، إلاّ أن التفاصيل التي تمّ الكشف عنها لـ”المدن”، تحمل خبايا ما يحصل في الأروقة، وتعطي مؤشّراتٍ عن أسباب زيادة عجز المستشفى، وتطرح في الوقت عينه تساؤلات عن الأشخاص الذين يُديرون الدفّة هناك.
تأخير دفع الرواتب
لا يُنكر موظّفو مستشفى الحريري حاجتهم لتسريع دفع رواتبهم عن شهر كانون الأول الماضي. لكن هناك ما هو أهم، لأن “دفع الرواتب من دون إنقاذ المستشفى، لن يفيد المواطنين وموظّفي المستشفى على حدٍّ سواء”، وفق ما تؤكّده مصادر من بين الموظّفين. ومع ذلك، شابَ مسار الرواتب شوائب دفعت الموظّفين إلى “التشكيك بأن هناك ما يُرسَم للموظفين والمستشفى“.
تأخّرت الرواتب “رغم أننا وُعِدنا مِن قِبَل إدارة المستشفى بالدفع قبل عطلة عيد الميلاد، وتحديداً بتاريخ 23 كانون الأول الماضي. انقضى العيد ولم نقبض. تجدد الوعد قبل نهاية العام 2023. انقضى العام ولم نقبض. وكثرت التبريرات، تارة بأن الأموال جاهزة لكن وزير المالية مريض ولم يستطع توقيع التحويل، وتارة تبريرات تتعلّق بالروتين الإداري، وغير ذلك. استمرّت المناورات حتى يوم الخميس الماضي، فذهب وفد من موظفي المستشفى إلى مدير مكتب وزير الصحة، الذي اتصل بإدارة المستشفى للاطلاع على أسباب التأخير، لنحصل إثر ذلك على جواب يقول بأن ليس هناك أي تأخير، فأعلنّا الإضراب لنقول بأن المستشفى والموظفين يموتون ببطء”.
إثر إعلان الإضراب، تسارَعَ ملفّ الرواتب، خصوصاً بعد اجتماع الموظفين مع رئيس لجنة الصحة النيابية النائب بلال عبدالله الذي تواصل مع مدير عام المالية جورج معراوي، وتبيَّنَ أيضاً أن الملف وصل إلى مصرف لبنان ومن المفترض أن يجري تحويل الرواتب إلى المصارف يوم غد الخميس”.
وتتوافق الصورة الإيجابية التي تبيّنها المصادر مع ما يقوله لـ”المدن”، المدير العام للمستشفى جهاد سعادة، الذي يؤكّد أن “الموظفين سيقبضون رواتبهم يوم غد”. أما سبب تأخير التحويل حتى بداية العام 2024، فيعيده سعادة إلى “الأعياد والدورة الروتينية للعمل في إدارات الدولة”.
شلل المختبر والأشعّة
تكشف المصادر أن الموظّفين سارعوا للتأكيد للإدارة على أن أولويتهم تتخطّى الرواتب على أهمّيتها. فالأولوية لتأمين الموارد المالية لشراء المعدات المطلوبة لتشغيل المختبر وقسم الأشعة. ومع ذلك “تم دفع الأموال لبعض الشركات ولم تؤمِّن المواد المطلوبة”.
إعطاء الموظفين الأولوية للمستشفى ينطلق من أن خدمات المستشفى باتت مشلولة. فعلى مستوى المختبر “لم يعد بالإمكان إجراء فحص الدم CBC أو فحص سيلان الدم أو فحص الـTPP مع فحص شوارد وبلازما الدم. وهذا يعني أن المختبر شبه متوقِّف عن العمل”. ولحلّ الأزمة “دفعَ المستشفى 9 آلاف دولار لإحدى الشركات المتعاقَده معه لتأمين المواد اللازمة للمختبر، وأرسل لها لائحة بالمواد المطلوبة، فأرسلت الشركة مواداً بقيمة 1000 دولار فقط، ولم تلتزم باللائحة المطلوبة. وما تم إرساله يكفي المستشفى لنحو 5 أيام بالحد الأقصى”.
في الوقت عينه، إن قسم الأشعّة يعاني كالمختبر. وعلى سبيل المثال فإن “إجراء بعض صوَر الرنين المغنطيسي MRI مستحيل. فتصوير الرأس والبطن والحوض واليدين والقدمين غير ممكن، بسبب فقدان قطعة من آلة التصوير، وثمنها نحو 15 ألف دولار”. وهذا الحال يدفع موظفي المستشفى وأفراد عائلاتهم والمرضى الآخرين إلى إجراء الصوَر المطلوبة في مستشفيات أخرى، علماً أن كلفة الصورة خارج مستشفى الحريري “بين 70 و80 دولاراً، وداخل المستشفى بنحو 4 مليون ليرة”.
تستغرب المصادر “أين تذهب الأموال التي تأتي إلى المستشفى“. ولمزيد من الغرابة “حصل المستشفى منذ نحو شهر ونصف الشهر على مبلغ 580 ألف دولار، صرفت الإدارة نحو 400 ألف دولار للشركات التي تؤمِّن المعدات واللوازم الطبية، وبعد نحو 20 يوماً على صرف الأموال، توقّفَ العمل بالمختبر، كما لم يتم إصلاح آلة الـMRI واستمرّ نقص الأدوية والمواد الطبية. ما يعني أن صرف الأموال عليه علامات استفهام، ولا نعرف كيف تأتي وعلى أي أساس تتحدّد قيمتها وكيف تُصرَف”.
تواطؤ من داخل الإدارة
يحيل سعادة أزمة المستشفى إلى الأزمة العامة للبلاد، والتي تصيب كل الإدارات والمؤسسات التابعة الحكومية. ويوضح أن المستشفى “يضطر لاستقبال مرضى لا يملكون المال، وبعضهم يبقى في المستشفى لعدّة أيام من دون أن يسأل عنهم أحد من ذويهم أو يدفع عنهم الفاتورة، ويضطر المستشفى لإقفال ملفّهم وإخراجهم وتحمّل الخسارة”. ولتحسين هذا الواقع، يقترح سعادة “تغيير التعرفة لتصبح بالدولار أو إيجاد صيغة أخرى مناسبة”.
ما يقوله سعادة هو “جزء بسيط من الأزمة”. إذ ترى المصادر بأنه “لو يتم إدارة الأموال التي يحصل عليها المستشفى بصورة صحيحة، لبات الوضع أفضل مما هو عليه الآن”. وتتعاظم المشكلة بنظر المصادر لأن “هناك مَن يتعمَّد تعقيد الوضع، من داخل المستشفى“. فالأموال التي تأتي “سرعان ما تُوَزَّع على الشركات المتعاقدة مع المستشفى. وهذا التوزيع يُسبَق بابتزاز تقوم به الشركات، كاتخاذها قرار عدم تقديم الخدمات مثلاً، لتضغط على الإدارة للحصول على الأموال. وتتكرّر المسألة كل مرة قبل وصول الأموال إلى المستشفى بأيام قليلة. وهذا يدل على أن هناك مَن يتواطأ من داخل إدارة المستشفى مع الشركات، ليخبرها بأن هناك أموالاً مرصودة وباتت على مقربة من التحويل، فتضغط الشركات باتجاه الاستفادة من الأموال. علماً أن هذه الشركات عينها تتعاقد مع مستشفيات خاصة وبعض المستشفيات الحكومية الأخرى، وتستمر بتسليم المواد رغم تأخّر دفع مستحقاتها لنحو 3 أشهر، ولا تمارس أسلوب الابتزاز إلاّ مع مستشفى الحريري. فهل هناك مَن يتعمَّد تدمير المستشفى؟”.
يتحوَّل مستشفى رفيق الحريري الحكومي، بفعل الإهمال، إلى ما يشبه المستوصف الكبير. فتتراجع خدماته وتتقلَّص فرص استفادة المرضى منها. ومع ذلك، تستفيد الشركات المتعاقدة مع المستشفى من مئات آلاف الدولارات، تُدفَع ثمن تحطيم وهدم المستشفى مادياً ومعنوياً، عوض تفعيل قدرته على تقديم الخدمات الصحية المطلوبة.