أدخل المجلس الدستوري 9 مواد إلى تلك التي سبق وأوقف العمل بها من موازنة العام 2024، فعلّق مفعول المواد 10-39-40-56-69-83-86-87-91 من قانون الموازنة العامة المطعون فيها وذلك إلى حين البتّ بالمراجعة وإصدار القرار النهائي في هذا الشأن، وبالتالي هو لم يُلغِ هذه المواد كما يصوِّر البعض.
“المواد المطعون بها لا تشكّل إيرادات أساسية للخزينة” بحسب رئيس دائرة الأبحاث الاقتصادية والمالية في بنك بيبلوس الخبير الاقتصادي الدكتور نسيب غبريل، ويقول لـ”المركزية”: الأسباب التي استندت إليها الطعون بتلك المواد، متعدّدة بعضها يتعلق بـ”فرسان الموازنة”، وآخر مرتبط بشروط دستورية، وطلب إدراج بعضها بقوانين مستقلة وليس من ضمن الموازنة… لكن النقطة الأساسية تكمن في ماهية أداء الموازنة ونتائجها في ظل الأوضاع التي تمر بها البلاد.
ويُضيف: عندما تم التقدّم بالموازنة في أيلول 2023 كانت مثقلة بالضرائب والرسوم الجديدة والزيادات التي أُدخِلت على تلك الموجودة، لكن أحداث 8 تشرين الأول شكّلت صدمة تركت تداعياتها على الواقع الاقتصادي العام، وبالتالي كان يُفترض بالحكومة أن تسحب هذا المشروع القانون، بغض النظر عن الاعتراض على مضمونه، إذ إن احتساب الإيرادات سيتأثر تلقائياً من الحرب المندلعة في غزة والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على الجنوب، الأمر الذي صَدَمَ عامل الثقة وبالتالي انعكس سلباً على الحركة الاقتصادية، ما سيؤدي إلى تحصيل إيرادات بمعدل أقل مما هو وارد في مشروع الموازنة الأساسي لهذا العام.
فالمطلوب ليس فقط سحب مشروع الموازنة، يقول غبريل، “بل كان الأجدى بالحكومة تقديم مشروع الموازنة في إطار سيناريوهَين تستند إليهما الواردات والنفقات:
– سيناريو الحرب الافتراضية في حال توسّعت رقعتها وطال أمدها
– سيناريو توقف الحرب القائمة حالياً.
هكذا فعلت الشركات التي أعدّت سيناريوهات عدة لمشاريعها على المدَيَين المتوسط والطويل، ودرست تأثير الحرب على إيراداتها ونشاطها في حال استمرت طويلاً أو توسّعت رقعتها، وسيناريو آخر في حال توقفت…”.
ويتابع: في كل الأحوال، إن التعديلات التي أدخلتها لجنة المال والموازنة مهمة جداً وصائبة، فهي خففت العبء الضريبي وثقل الرسوم على القطاع الخاص كما على المواطن، لكن حتى أرقام الإيرادات الواردة في الموازنة تبقى حبراً على ورق بسبب حال عدم اليقين نتيجة الحرب القائمة في غزة وجنوب لبنان ومدى كلفتها على الاقتصاد الوطني… كما يجب ألا ننسى أن هناك 90 ألف نازح من الجنوب.
ويشير في السياق، إلى أن “اقتصاد الجنوب مشلول كلياً والحركة المدنية شبه متوقفة فيه، إلى جانب آلاف الهكتارات من السهول والبساتين التي أحرقتها الصواريخ الفوسفورية الإسرائيلية ما أثّر بشكل مباشر على القطاع الزراعي الجنوبي”.
ويعتبر أن “استمرار الحرب من دون أفق ومواصلة الاعتداءات على الجنوب، دونه كلفة اقتصادية باهظة على البلاد كونه يؤثّر على الحركة الاقتصادية والاستثمارية والاستهلاكية على طول الأراضي اللبنانية، الأمر الذي ينعكس تلقائياً على إيرادات الخزينة”، ويتابع: إن الكلام عن أن موازنة 2024 من دون عجز، هو كلام لا ينطبق على الواقع، لأن أحداً لا يعلم كيف ستكون الأرقام! إذ في حال توقفت الحرب اليوم وعادت العجلة الاقتصادية وتم انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وانطلق مسار الإصلاحات، شيء. وإذا استمر الوضع الضبابي قائماً فهذا شيء آخر. كذلك في حال شُنَّت حرب إسرائيلية شاملة على لبنان، شيء مختلف كلياً أيضاً. وكل تلك السيناريوهات تؤثّر على إيرادات الخزينة وبالتالي على نتائج الموازنة بالتأكيد.
ويقول: عندما نتحدث اليوم عن تعليق العمل ببعض البنود بسبب تقديم الطعون وهذا حق للنواب كما أن المجلس الدستوري يقوم بواجبه، علينا النظر إلى الصورة الأوسع والأكبر في ما يتعلق بأرقام الموازنة وتحديد إيراداتها، خصوصاً في ظل النفقات المستجدة على رواتب ومخصّصات ومساعدات القطاع العام والتي أقرّها مجلس الوزراء أخيراً، على رغم أن الموازنة تلحظ على الورق الاحتياطي الذي يمكن أن يغطي هذه النفقات، كما أنه أصبح في حساب الدولة لدى مصرف لبنان ما مجموعه تقريباً 390 ألف مليار ليرة أي ما يوازي نحو 3،4 مليار دولار.
ويذكّر في هذا الإطار، بأن “وزارة المال لم تنشر نتائج المالية العامة للعام 2022 و2023، علماً أن إيرادات الخزينة ارتفعت العام الفائت وحققت فائضاً في الموازنة نتيجة زيادة: الدولار الجمركي، تعرفة الكهرباء والاتصالات، الجباية بالدولار الأميركي، وانتعاش الحركة الاقتصادية أقله لغاية 8 تشرين الأول… إلخ”.
ويُشير غبريل إلى أن “إضراب موظفي الإدارات العامة وإغلاق الدوائر الرسمية مُكلف جداً على الخزينة التي تراجعت إيراداتها بشكل لافت من 21% من الناتج المحلي خلال عامَي 2018 و2019، إلى 8،5% من الناتج خلال العام 2023 بحسب تقديرات صندوق النقد، وبالتأكيد من دون إغفال تأثير الأزمة المالية و”اقتصاد الكاش” والتهرّب الضريبي على تراجع إيرادات الخزينة… وتُقدَّر الخسائر اليومية على إيرادات الخزينة بـ13 مليوناً و500 ألف دولار عن كل يوم توقف عن العمل في الدوائر الرسمية وذلك بحسب أرقام الموازنة. فالسبيل الأنجع والأسرع لزيادة إيرادات الخزينة هو فتح الدوائر الرسمية بشكل مستمر ولحظ المصادر المهمَلة لإيرادات الخزينة كـ: مكافحة التهريب، وتحسين الجباية وغيرهما”.
…”فلنتطلّع إذاً إلى الصورة الأوسع والأبعد من الطعون وقرار المجلس الدستوري…” يختم غبريل.